أحضرُ هذه الأيام
دورة تدريبية كان مما طرح فيها بعض مهارات التفكير وكان لابد أن يطرح اسم الأب
الروحي لتلك المهارات وهو إدوارد دي بونو ذلك الطبيب النفسي الذي ترك مهنة الطب
واتجه لبحث تلك المهارات وبثّها وتدريبها –
مكتشفاً نفسه في مرحلة لاحقة أنه خُلق لتلك المهارات أكثر من مهنة الطب - ! المهم
في الموضوع أن المدرب مشكوراً طرح اسم ( دي بونو ) مستحضراً مقولة له ذات يوم عن
الإسلام في جواب وُجّه له عن رأيه في هذا الدين , فيقول : وجدتُ الإسلام أكثر دين
يحثّ على التفكير ! اهـ ومقارناً بين مقولته تلك ومقولة البابا بنديكيت السادس عشر
حين قال : إن الإسلام يُجمّد العقل !!
الحقيقة أن كل ذلك
الاستعراض للمقولتين جاء سريعاً وعرضياً , إلا أن الفكرة التي تم تمريرها بشكلها
المبسط عن المقولتين قد أصابت عقلي بالشلل لدقائق طويلة خلال تلك المحاضرة , فبقيت
أبحث في حلقة مفرغة قد تم تجاهلها بشكل ساذج يتغافل عن مكامن الخلل في المقولتين
معاً , وهو – برأيي – أُسّ البلاء الذي نعيشه في ثقافتنا الدينية وأحد جذور الخلل
الكامن .. ومن النادر أن يتحدث أحد – بكل شفافية – عن ذلك الخلل الصارخ !!
أردت أن أعقّب ولكن
استسخفت التعقيب بعد أن تم تجاوز الفكرة وما بعدها خلال اللقاء بمراحل .. كما أن
طبيعة الحضور والتشنج المتوقع – والذي أنا معتاد عليه – كل ذلك قد وضع أمامي تجاه
التعقيب والرد حواجز من التردد والرغبة في عدم تشويش الجو وإحداث مفرقعة جدلية ليس
هنا مكانها , ففضلت الصمت , فما الذي أردتُ قوله ؟؟
أعتقد أن مقولة
بنديكيت التي تقرر أن الإسلام دين جمود , لا ينبغي التعامل معها على أنها مجرد حقد
ديني من بابا إلى دين مختلف , كما هو الأمر ببساطته بين شيخ مسلم تقليدي ودين مختلف
وتصوير الأمر على أنه كراهية دينية مجردة , إطلاقاً , فالبابا بنديكيت أكثر علماً
بالإسلام من إدوارد دي بونو الطبيب المهتم بمهارات التفكير , ولذا فما قاله
بنديكيت – في عمقه - فيه شيء من الحقيقة
الصادمة !! فما هي ؟؟
بداية ً .. دي بونو
محق فيما قال , حيث قراءته الشمولية للنصوص من الخارج , وهو صادق بلا شك في أن
الإسلام دين يحث على إعمال العقل , إلا أن البابا بنديكيت قد تعمّق أكثر في قراءة
الإسلام إلى تلك الدرجة التي خبر بها المذاهب والاجتهادات الفقهية والعقدية التي
لحقت بالإسلام وتعلقت به , فحين يقرأ مثلا قول أحدهم بوجوب تقديم النقل على العقل ,
ويقرأ أو تتاح له قراءة هذه النسخة من الإسلام , فماذا تريدون منه أن يقول وهو يرى
ذلك الإغلاق المتعمد والتغييب الممنهج
لنعمة العقل ؟؟
ما تفوه به بنديكيت
يجب أن يكون صادماً لنا ولثقافتنا ويعطينا القدرة على ممارسة نقد الذات الحرّ
وبشجاعة ورغبة أكيدة في إصلاح الخلل !! فالإسلام لم يكن بذلك التمذهب وتلك
الاجتهادات المغلقة لأبواب العقل والتفكير , ولهذا حين قرأ دي بونو بشكل مجرد
ومباشر من المصدر الأصلي للإسلام وجد تلك النسخة الأصلية من الإسلام الذي لم يتشوه
بالآراء والاجتهادات التي أتت في عصور لاحقة , ولهذا أيضا فحتى بنديكيت في مقولته
تلك لم يكن مخطئاً بدرجة كبيرة سوى في أنه لم يفصل في حقيقة أن ما يقصده هو النسخة
المعاصرة من الإسلام , والتي خرجت كثيراً عن نسق النغمة الأولى الأجمل والأكثر
براءة وإشراقاً إلى تلك التي مال بها بعض الفقهاء عن المقاصد المؤكدة في القرآن
أكثر من مرة عن وجوب التفكير والتدبر والتعقل والنظر والتأمل وبشكل لم يتكرر بنفس
الكمية للصلاة نفسها والعبادات الفرائضية الأخرى !! فعلام يدلّ هذا ؟
نعم الإسلام دين
تفكر وتدبر وإعمال للعقل وتقديس له , ولهذا فإن مسألة تقديم العقل على النقل الذي
تقول به المعتزلة – في تصوري – ليس هناك حاجة لها بشرط أن يتم فهم النص وفق منطقه
المقاصدي الصحيح وإنزاله منزلة ظرفه التاريخي والزمني والثقافي والبيئي الذي تموضع
ذلك النص فيه حين نزل , وبالتالي فلن يتعارض مطلقا مع العقل إن تم التعامل به وفق
تلك الآلية , ولن نحتاج إلى تقديم العقل عليه , ولكن حين جاءت المذاهب وتدخلت
السياسة في الدين , وجاء فقهاء قولبوا تلك النصوص وفق أفهام معينة في عصرها وسبّب
ذلك الاعتساف لمقاصد النصوص بعض التصادم مع العقل جاء المعتزلة ليقولوا بتقديم
العقل على النقل , ثم جاء السلفيون ليقولوا بتقديم النقل على العقل , كردّ اعتبار
لقدسية النص من وجهة نظرهم , وهكذا ظل المسلمون في دائرة جدلية مفرغة , رغم أن
أساس المعادلة – من جذورها – يجب أن تكون أكثر بساطة وديناميكية , وذلك بالنفاذ
إلى فهم حيثيات النص ثم قياسها بالمقاصد للوصول إلى الدراية بمنطقية النص ومنطلقاته ودوافعه وأبعاده , وبذلك
سوف تنتهي المشكلة تلقائيا !
الأهم هو أن
المسلمين اليوم حين يتباكون على خذلان حضارتهم وذهاب هيبتهم وزوال قوتهم وتأثيرهم
, فيجب أن يكون هذا دافعاً قوياً إلى بحث جذور كل ذلك الذلّ والضعف معرفياً
وتاريخياً بكل شجاعة .. فالمقولات الساذجة مثل : ( مشكلة الإسلام في المسلمين
أنفسهم ) , أو مقولة : ( لن تقوم لنا قائمة إلا بالرجوع إلى الدين الصحيح ) , كل
تلك المقولات إنما هي عبء إضافي على المشكلة وعلى وعي ووجدان الأمة !! فأي نسخة من الإسلام هي التي ستصنع حضارة ؟ وأي
رجوع يقصد به ؟ وما آلياته ؟ وما هو الدين الصحيح اليوم ؟ كل ذلك وغيره يجب أن
يطرح بمكاشفة شاملة تشمل علماء ومفكرين في ثورة فكرية ملحمية صادقة هدفها أسمى من
تصفية الحسابات وتبادل الاتهامات التي لا تشكل إلا وقوداً مغذياً لاستمرار تلك
الحالة من الضعف والهوان !