السبت، 30 مارس 2013

بين مقولتين .. كيف يفهم المسلمون دينهم ؟؟



 

أحضرُ هذه الأيام دورة تدريبية كان مما طرح فيها بعض مهارات التفكير وكان لابد أن يطرح اسم الأب الروحي لتلك المهارات وهو إدوارد دي بونو ذلك الطبيب النفسي الذي ترك مهنة الطب واتجه لبحث تلك المهارات وبثّها وتدريبها  – مكتشفاً نفسه في مرحلة لاحقة أنه خُلق لتلك المهارات أكثر من مهنة الطب - ! المهم في الموضوع أن المدرب مشكوراً طرح اسم ( دي بونو ) مستحضراً مقولة له ذات يوم عن الإسلام في جواب وُجّه له عن رأيه في هذا الدين , فيقول : وجدتُ الإسلام أكثر دين يحثّ على التفكير ! اهـ ومقارناً بين مقولته تلك ومقولة البابا بنديكيت السادس عشر حين قال : إن الإسلام يُجمّد العقل !!

 

الحقيقة أن كل ذلك الاستعراض للمقولتين جاء سريعاً وعرضياً , إلا أن الفكرة التي تم تمريرها بشكلها المبسط عن المقولتين قد أصابت عقلي بالشلل لدقائق طويلة خلال تلك المحاضرة , فبقيت أبحث في حلقة مفرغة قد تم تجاهلها بشكل ساذج يتغافل عن مكامن الخلل في المقولتين معاً , وهو – برأيي – أُسّ البلاء الذي نعيشه في ثقافتنا الدينية وأحد جذور الخلل الكامن .. ومن النادر أن يتحدث أحد – بكل شفافية – عن ذلك الخلل الصارخ !!

 

أردت أن أعقّب ولكن استسخفت التعقيب بعد أن تم تجاوز الفكرة وما بعدها خلال اللقاء بمراحل .. كما أن طبيعة الحضور والتشنج المتوقع – والذي أنا معتاد عليه – كل ذلك قد وضع أمامي تجاه التعقيب والرد حواجز من التردد والرغبة في عدم تشويش الجو وإحداث مفرقعة جدلية ليس هنا مكانها , ففضلت الصمت , فما الذي أردتُ قوله ؟؟

 

أعتقد أن مقولة بنديكيت التي تقرر أن الإسلام دين جمود , لا ينبغي التعامل معها على أنها مجرد حقد ديني من بابا إلى دين مختلف , كما هو الأمر ببساطته بين شيخ مسلم تقليدي ودين مختلف وتصوير الأمر على أنه كراهية دينية مجردة , إطلاقاً , فالبابا بنديكيت أكثر علماً بالإسلام من إدوارد دي بونو الطبيب المهتم بمهارات التفكير , ولذا فما قاله بنديكيت – في عمقه -  فيه شيء من الحقيقة الصادمة !! فما هي ؟؟

 

بداية ً .. دي بونو محق فيما قال , حيث قراءته الشمولية للنصوص من الخارج , وهو صادق بلا شك في أن الإسلام دين يحث على إعمال العقل , إلا أن البابا بنديكيت قد تعمّق أكثر في قراءة الإسلام إلى تلك الدرجة التي خبر بها المذاهب والاجتهادات الفقهية والعقدية التي لحقت بالإسلام وتعلقت به , فحين يقرأ مثلا قول أحدهم بوجوب تقديم النقل على العقل , ويقرأ أو تتاح له قراءة هذه النسخة من الإسلام , فماذا تريدون منه أن يقول وهو يرى ذلك الإغلاق المتعمد  والتغييب الممنهج لنعمة العقل ؟؟

ما تفوه به بنديكيت يجب أن يكون صادماً لنا ولثقافتنا ويعطينا القدرة على ممارسة نقد الذات الحرّ وبشجاعة ورغبة أكيدة في إصلاح الخلل !! فالإسلام لم يكن بذلك التمذهب وتلك الاجتهادات المغلقة لأبواب العقل والتفكير , ولهذا حين قرأ دي بونو بشكل مجرد ومباشر من المصدر الأصلي للإسلام وجد تلك النسخة الأصلية من الإسلام الذي لم يتشوه بالآراء والاجتهادات التي أتت في عصور لاحقة , ولهذا أيضا فحتى بنديكيت في مقولته تلك لم يكن مخطئاً بدرجة كبيرة سوى في أنه لم يفصل في حقيقة أن ما يقصده هو النسخة المعاصرة من الإسلام , والتي خرجت كثيراً عن نسق النغمة الأولى الأجمل والأكثر براءة وإشراقاً إلى تلك التي مال بها بعض الفقهاء عن المقاصد المؤكدة في القرآن أكثر من مرة عن وجوب التفكير والتدبر والتعقل والنظر والتأمل وبشكل لم يتكرر بنفس الكمية للصلاة نفسها والعبادات الفرائضية الأخرى !! فعلام يدلّ هذا ؟

 

نعم الإسلام دين تفكر وتدبر وإعمال للعقل وتقديس له , ولهذا فإن مسألة تقديم العقل على النقل الذي تقول به المعتزلة – في تصوري – ليس هناك حاجة لها بشرط أن يتم فهم النص وفق منطقه المقاصدي الصحيح وإنزاله منزلة ظرفه التاريخي والزمني والثقافي والبيئي الذي تموضع ذلك النص فيه حين نزل , وبالتالي فلن يتعارض مطلقا مع العقل إن تم التعامل به وفق تلك الآلية , ولن نحتاج إلى تقديم العقل عليه , ولكن حين جاءت المذاهب وتدخلت السياسة في الدين , وجاء فقهاء قولبوا تلك النصوص وفق أفهام معينة في عصرها وسبّب ذلك الاعتساف لمقاصد النصوص بعض التصادم مع العقل جاء المعتزلة ليقولوا بتقديم العقل على النقل , ثم جاء السلفيون ليقولوا بتقديم النقل على العقل , كردّ اعتبار لقدسية النص من وجهة نظرهم , وهكذا ظل المسلمون في دائرة جدلية مفرغة , رغم أن أساس المعادلة – من جذورها – يجب أن تكون أكثر بساطة وديناميكية , وذلك بالنفاذ إلى فهم حيثيات النص ثم قياسها بالمقاصد للوصول إلى الدراية  بمنطقية النص ومنطلقاته ودوافعه وأبعاده , وبذلك سوف تنتهي المشكلة تلقائيا  !

 

الأهم هو أن المسلمين اليوم حين يتباكون على خذلان حضارتهم وذهاب هيبتهم وزوال قوتهم وتأثيرهم , فيجب أن يكون هذا دافعاً قوياً إلى بحث جذور كل ذلك الذلّ والضعف معرفياً وتاريخياً بكل شجاعة .. فالمقولات الساذجة مثل : ( مشكلة الإسلام في المسلمين أنفسهم ) , أو مقولة : ( لن تقوم لنا قائمة إلا بالرجوع إلى الدين الصحيح ) , كل تلك المقولات إنما هي عبء إضافي على المشكلة وعلى وعي ووجدان الأمة !!  فأي نسخة من الإسلام هي التي ستصنع حضارة ؟ وأي رجوع يقصد به ؟ وما آلياته ؟ وما هو الدين الصحيح اليوم ؟ كل ذلك وغيره يجب أن يطرح بمكاشفة شاملة تشمل علماء ومفكرين في ثورة فكرية ملحمية صادقة هدفها أسمى من تصفية الحسابات وتبادل الاتهامات التي لا تشكل إلا وقوداً مغذياً لاستمرار تلك الحالة من الضعف والهوان !

ساق الغراب .. الرواية حين تؤرشف الهوية !!



 

من الروايات النادرة التي وجدتها تكتبني أنا شخصياً , وتلخّصني من دمائي الممتدة من جبال السروات بعروق الحنين الحارّة إلى وجداني المبثوث بحثاً عن هويةٍ منتهكة وأرضٍ افتُضّت بكارتُها إلى غير رجعة ..

 

إنها ساق الغراب أو ( الهربة ) للصديق يحيى امقاسم الذي أهداني نسخة من الرواية مشكوراً قبل ثلاثة أشهر وتحمّل عناء إرسالها لي على حسابه الخاص , إلا أنني مع زحمة انشغالاتي التي لا تنتهي اضطررت أن أحشر توقيتها بين جملة الكتب التي تصطف أمامي في انتظار لحظات اغتصابها التي أسرقها رغم أعباء الأسبوع , فحين جاء دورها سرقتني هي نفسها من نفسي وأعمالي فأنهيتها في ثلاثة أيام , ليس لجمالها وحبكتها فحسب , فهذا شأن آخر قد يقيّمه من هو أقدر مني على ممارسة النقد السردي وفنونه , ولكن لكونها تكتب جزءاً من الوجدان الجريح , وتُشرّح لحظة الزمن المتوقف منذ أن تغيّر وجه الأرض برداء غير ردائها الذي كانت تتلفع به لمئات السنين !!

 

إن ساق الغراب وهي تحكي جزءاً من تاريخ غفا إلى الأبد لتؤصلُ حكاية الإنسان الذي عاقر هذه الأرض وكان جزءاً منها وهي جزءٌ منه في مشهد عشق سرمدي امتدّ طوال التاريخ لتأتي تلك اللحظة التاريخية التي تخلّى فيها الإنسان عن تلك الأمشاج , فتشي الرواية بذلك الانهيار الوجداني لإنسان تلك الأرض الذي رضي بالذوبان وتخلى عن نفسه ولسانه وردائه ولون بشرته نظير حظوة جديدة أتى بها زمن جديد في واقع جديد انتهك تاريخه وثقافته ولسانه وقصائده وأسماره وعلاقته الفطرية بأبناء وبنات أرضه !

 

الرواية حقيقةَ ليست بدعاً في طرق هذا التاريخ الجنوبي الغائر , فهناك أعمال أخرى تطرقت لشيء من الأرشفة التاريخية في ذلك النسق السردي , كما عند عبدالعزيز مشري رحمه الله وكذلك عبده خال والكثير جداً من المبدعين من تلك المنطقة الذين نقلوا لنا مسرح الماضي أمامنا بكل ركام أوجاعه .. إلا أن ساق الغراب – في تصوري – كانت أكثر تلك الأعمال في الاتكاء على وجع ( الهوية ) المستسلمة والمسلّمة .. تستثير الرواية تفاصيل حركة النزوح الثقافي إلى عقيدة جديدة ومذهب جديد وأشخاص جدد جاؤوا ليفرضوا كل ذلك الإحلال الجديد لزرعٍ جديد استجلب إلى هذه الأرض حتى تبدّل وجهها وبُترت عنها براءتها وإنسانها كذلك , فلم تعد تلك الأرض التي كانت يوماً تُسقى بالدم والدمع والعرق , لم تعد – في وجدان أبنائها بعد ذلك – أكثر من ركام من جهل قديم وخرافة جاء الفاتح الجديد ليضيئها بأنوار علمه ودينه وتقاليده الجديدة , وزرعه الجديد , وفي مشهد تاريخي موجع سلّم الإنسان ناصيته لهذا التغيير , فتغيرت حتى دماؤه فلم يعد ذلك الدم الجنوبي المغلي الذي يثور من كلمة ويسيل من غمزة ويفيض بالحب والفرح والبراءة .. لينقلب إنساناً آخر . يلهث وراء قوته في المدن البعيدة تماماً كالأغراب الذين يجوبون هذا الوطن المكتنز من تحت تحت أرجلهم بالعطاء , بلا أي قيمة للفرح في داخله وبلا أي نكهة للحياة التي ما إن استبدل بزوالها ألوان ملابسه الزاهية بذلك اللون الواحد حتى تبدلت معها حياةٌ كاملة تحولت هي الأخرى للون واحد ونكهة واحدة ونسق واحد من الأفكار والتصورات جعلت أجيالاً متعاقبة يتناسلون بنسخة واحدة في لون واحدة ووجه واحد متشابه بلا ملامح تقريباً !!

 

إن ( الهربة ) التي حكى عنها يحيى امقاسم لم تكن أكثر من ( هربة ) الإنسان من نفسه ودمه وعروقه , هرب هذا الإنسان أيضاً – تحت خديعة كبرى – من جذوره وقطّعها ليكتب بذلك جذوراً جديدة لم تكن هذه الأرض تعرفها يوماً ولأفكار مستوردة لم تكن في عقله منذ أن درج أجداده يحرثون ويزرعون ويقلعون بدماء قلوبهم ومقل أعينهم , فاستُبدلت البذور ببذور , والزرع بزرع آخر , فتغيرت نكهة الخبز , وتبدّلت أغاني الزراعة , فقيل يا سماء أمسكي أقدارك ويا أرضي ابلعي رجالك .. وتبدلّت الحقول إلى ( عثّريات ) لا تنبت غير الشوك والطلح والأثل , وقيل وداعاً لروح قوم طاهرين !!

 

 

ما قبل تطبيق الشريعة !!



 

جاء الإسلام بجملة ضرورات إنسانية كبرى غير مختلف فيها تستهدف حماية الفرد والمجتمع وتأسيس دولة تُحفظ فيها الحقوق ويكرم فيها الإنسان وتُحقق فيها العدالة .. مثل الضرورات الخمس المعروفة وكذلك الأصول الكبرى التي بثّها الإسلام كمادة أولية تقوم عليها بقية التشريعات وتستقي مدلولاتها من سياقها الرسالي الشامل .

 

إلا أن ما حصل في عصور متأخرة هو أن التمذهب الذي حصل للكثير من المسلمين قد أحدث فوضوية في فهم أولويات التطبيقات الشرعية , بحيث جاءت الفروع كأصول وانحدرت قيمة الأصول إلى ما هو أقل من الفروع .. فلو تتبعنا مثلا قصة تعليق الخليفة عمر رضي الله عنه لحد السرقة عام الرمادة , فهذا يعني أن عمر قد وعى الحكمة الحقيقية من تشريع حد السرقة كونه قيمة رادعة ليس إلا , وحينما حصلت نازلة عام الرمادة حيث جاع الناس وأصبح من المتعذر أن يكون هذا الحد رادعاً حيث أولوية الحياة كغريزة بقاء تقفز على أي عواقب محتملة , فقد جاء هذا التعليق ( الدستوري ) أو ما يشبه اليوم ( قانون الطوارئ) ليعطي لنا إشارة واضحة أن تلك الحدود مرهون تطبيقها أصلا بأصول مرحلية أولى ( كالضرورات الخمس ) بحيث تضمن تلك الضرورات الحفاظ على النفس عبر إطعام الناس والعدل في توزيع المال والثروات حتى  يأتي مثل هذا الحد التشريعي ليكون فقط رادعاً حين يشبع أكثر الناس ولا يلجأون لاستخدام غريزة البقاء , ورغم ذلك فقد وضع لنا الرسول صلى الله عليه وسلم قاعدة ( دستورية ) غاية في الرقي : ادرؤوا الحدود بالشبهات !! كلمسة تضفي آفاقاً أعمق على طبيعة تلك التشريعات , كون أنها فضاء لحفظ الحياة العامة أكبر من كونها تطبيقات شُرَطية مجردة وسطحية كما لو تطبق المخالفات المرورية مثلا !!

 

تلك الأوليات الدستورية في الدين الإسلامي غير معتبرة عند كثير ممن ينادي بتطبيق الشريعة وفق مستوى سطحي من التصورات التي تأخذ فقط البعد المظهري لتلك التشريعات دون النفاذ إلى جوهر وجودها ومستوى ترتيبها الاستراتيجي في الإسلام كدين جاء أساساً لينقل البشرية من حال إلى حال لا أن يطبق فقط جملة تشريعات مفرغة من محتواها الروحاني ومنفصلا عن تلك الاستراتيجية الإلهية التي ترسم الأولويات وفق تلك الأهمية الإنسانية بحيث لا تقوم الفروع إلا إذا تحققت الأصول !

 

أما أن تتلاشى قيم الضرورات الكبرى في الذهن الديني ويغمط الإنسان حقه في العيش بكرامة وبمستوى إنساني مطلوب من العدالة كحق له على الدولة , ثم في نفس الوقت يتم تطبيق بعض الحدود بتلذذ غريب , كل ذلك في اعتقادي هو انحراف عن تلك المقاصد التي قررتها الرسالة السمحة في بناء مجتمع ودولة على أسس راسخة , محققة بذلك قيم العدالة المنشودة . وقد حصل شرخٌ عظيم جداً في الوجدان الإسلامي اليوم عند أكثر الشباب حيث تقفز التناقضات أمامهم يومياً دونما معرفة بمكامن الخلل الناتج عن فوضوية الفهم المستقى من اصطلاح ( تطبيق الشريعة ) والخلط الحاصل في تراتبية وتمرحل تلك المستويات التشريعية , مما يزيد من فرصة الإقبال المتزايد على الفكرة العلمانية بكل ما فيها  كمخرج وحيد وعصري لجملة التناقضات الحاصلة في الذهن الناشئ اليوم , وكضرورة معاشة أعتقد بلجوء المجتمعات المسلمة إليها ذات يوم إن لم يحصل التدارك والإصلاح في توضيح تلك الإشكالات المهمة , وإرجاع احترام مخرجات الدين في سياق الإقناع بالوسائل العصرية وليس فقط بالنصوص المفسرة مسبقاً بفهم مذهبي محدد يعطي ختمه الخاص به على كل نص وكل تشريع كماركة مسجلة اعتادت على إعادة إنتاج تلك النصوص وتسويقها عبر أداوتها المذهبية الضيقة !!

الأدب الآيروسي في التويتر !!


تعرّف الآيروسية بأنها : مشتقّة من ( أيروس ) إله الحب عند اليونان القدماء .. وأصحبت الكلمة تعني الرغبة في الحب الجنسي , ثم تطورت لتصبح  مرادفاً للأيروتيكية ( EROTIC ) وهي الإثارة الجسدية المتعمدة !!

 

حوت الآداب الأممية – كلها تقريباً – إنتاجات متشابهة نوعاً وليس كماً في هذا المجال الذي عبّر عن اللحظة الجسدية للوصول إلى ذلك التصوير الشبقي للحالة , وحتى في إنتاجنا العربي منذ العصر الجاهلي .. وما معلقة امرئ القيس بغريبة عنا وما حوته من تصاوير آيروسية تخوض في تفصيلات تلك اللحظة الشبقية  الصاخبة .

 

إلا أن ما يلاحظ في التويتر اليوم من إنتاج آيروسي / شبقي  بات ملحوظا بكثرة متنامية  من الجيل الجديد من الجنسين ليكشف لنا عن بذور تغيير ممكنة في ترتيب  أولويات الأخلاق والتقاليد مستقبلا على يد جيل بدأ يتخّلق  خارج رحم السيطرة الدينية والاجتماعية والسياسية .

أنا هنا لست واعظاً استنكارياً ولا مصفقاً لهذا التغيير , وإنما راصد بشكل محايد لحركة تغيير عنيف  تدور الآن في عمق الذهن الاجتماعي , تستدعي الرصد والتقييم وإعطاء تصورات يمكن أن تتنبأ بشكل ولون ذلك التغيير الذي يمكن أن يحدثه هذا الحراك الذي يتغافل عنه الكثيرون ويعتبرونه جزءاً ثانوياً على مشهد الوعي اليومي في مجتمعنا .

 

ما قبل التويتر .

بل ما قبل عصر الانترنت لم يكن هناك إنتاج أيروسي حقيقي باستثناء تلك القصيدة مجهولة المصدر ( ماذا أقول ؟) والتي كتبت على لسان فتاة جامعية , كان الشباب مطلع التسعينيات يتداولون تلك القصيدة مصحوبة بشيء من الإشاعات المبهّرة للقصة , مثل : أنه قد تم فصل تلك الفتاة من الجامعة !! وذلك بغية إعطاء شيء من الخيال الداعم لظروف القصيدة المنظومة على لسان فتاة تحترق شبقاً وتمتلئ بالرغبة الملحّة . باستثناء تلك القصيدة لم تسجل لنا فترة ما قبل الانترنت أي مشاغبات من هذا النوع بسبب إحكام القبضة الدينية والاجتماعية .

وحتى مع بزوغ فجر الانترنت لم تكن هناك ملاحظة لظاهرة انفلات تعبيري نحو هذا الاتجاه .. أيضا بحكم التقاليد التي تتبعها المنتديات وفضاء الحرية المحدود الذي يحكمها .. حتى جاءت اللحظة التويترية الصاخبة .. فكان التويتر بما يميزه من حرية فضائية منطلقة لا تحدها حدود , وبما يتملكه من تقنيات في خصائص استخدامه , وحين بدأ المجتمع يستلم قيادة نفسه في التعبير وتشكيل الرأي العام بدل المنتديات المحكومة بأجندات وتوجهات .. في كل تلك الظروف حصلت ثورة البوح الآيروسي بشكل لافت ويبعث على التأمل فيما يمكن أن يفضي إليه كل ذلك الإيقاع المتنامي باطراد , حيث الانتشار والزيادة في الأعداد المتابعة للمنتج الآيروسي التويتري والذي يصل عند بعض تلك الحسابات إلى عشرات الآلاف !

خصائص الآيروسية التويترية :

المنتج الآيروسي التويتري بنظرة سريعة من التقييم نجده يحاول أن يتمثل اللغة العربية الفصحى  كأسلوب للتعبير الشبقي المنفلت وبالتالي يطرح ذلك الإنتاج نفسه في إطار ( ثقافي ) أو يحاول أن يكون كذلك مستخدما فن ( الخواطر ) السريعة والتي لا تكلف كثير موهبة كتابية أو تعبيرية .. رغم الضعف الملحوظ في التعبيرات والتصاوير والحبكة اللفظية والصورة اللغوية .. إلا أنه يتخذ التطور السريع سمة له يُصعّب من مهمة  إعطاء حكم تقييمي  ثابت عن جملة ذلك الإنتاج في كل مرة تتم رصد تلك الكتابات  .

 

ومما يزيد في تصور أن كل هذا ليس مجرد عبث عابر لمراهقين أشقياء  هو عدم تعمد ذلك الإنتاج الآيروسي استحضار لحظة إغواء الصورة الجنسية التقليدية , بل اللجوء إلى خيالات الكلمة الشبقية وما تحدثه من أثر  مضاعف يفوق أثر الصورة المجردة التقليدية .. إضافة إلى تعمد تلك الحسابات الآيروسية إلى استخدام الصور غير الملونة , الصور ذات (الأبيض والأسود ) سواء كصور رمزية لتلك الحسابات أو كصور معروضة تساعد في إيقاد اللغة التصويرية لتلك اللحظات العارمة  , وهو تطور نوعي حتى في الإعلام اليوم حيث بعض أغاني الفيديو كليب وبعض الإعلانات التلفزيونية وكذلك المطبوعة , بغية مضاعفة جرعة الاندماج في لحظة اللقطة المعروضة بدون الحاجة إلى صخب الألوان وتشتيتها !! كل ذلك لا يمكن معه تبسيط المسألة بكونها ظاهرة مراهقة اليكترونية فقط !!

 

لستُ من هواة نظرية المؤامرة .. ولا أطمح إلى تحميل أي قضية أكثر من حجمها الصادق .. إلا أن حراكاً يدور الآن بكل تلك التفصيلات المهمة والسياقات الكاشفة عن حجم ثورة متشكلة  في أنماط التفكير الجمعي , كل ذلك يجب أن يسترعي المهتمين برصد هذا الحراك وتقويم تلك التجربة بهدف إعطاء تلك التصورات المطلوبة للكشف عن وجه المستقبل المخبوء في رحم تلك  الحركة الجديرة بالفحص والتأمل . حيث إن البدايات مشابهة تماماً لما حصل في أمريكا في ستينيات القرن الماضي من ثورة جنسية عارمة شكّلت فيما بعد أنثروبولجية المجتمع الأمريكي لم تفلح الكنائس في لجمها , حتى إنها تجاوزت ذلك إلى رسم قوانينه المدنية العامة اليوم . الفرق أنها هنا لا تزال ( اليكترونية ) !!

الجمعة، 29 مارس 2013

شعر-- أزمنةٌ تجري لمستقرٍّ لها



   تضيئين من خلف السنين كزهرةٍ

توسّدتُ فيها غربتي وعنائي


أصبُّ عليها الذكريات فتنطفئ

حياءً لتشعلَ جذوةً بحيائي


ونادمتُها طُهرَ المدامع ساعةً

وعاقرتُها جرحاً أضاء سمائي


توسّلتُ منها الموت فوق ضيائها

ووقتاً سيحفرُ حُرقةً بدمائي


تمددتُ في عرض المسير يجرّني

سرابٌ , وماضٍ عالقٌ بردائي



ولملمتُ أوراقي ورحتُ مسافراً

على الحرف أستجلي سحاب صفائي


أفتشُ ما بيني وبين كآبتي

عن الوطن المرسوم في البرحاءِ    


                                                                                      1424 هـ

شعر-- انكسارات


                                               


 

                                      جمعت من روض الصبا آماليَهْ


ونمتُ كالعصفور فوق الداليةْ

 

ولستُ أدري هل هناك قصةٌ

وكيف ؟ أو لمن ؟ شوقٌ غدا بيَهْ

 

أرى الفؤادَ كل حينٍ نازفاً

تعانقتْ به جراحٌ نابيةْ

 

وتبدع السياطُ كل ليلةٍ

خريطةً على الفؤاد داميةْ

 

يئنُّ مجدافُ السنين خاشعاً

فترتمي بحضنه أحلاميهْ

 

وتشتكي الآمالُ من عزف الخُطا

وترقصُ الآلامُ فيه عاريةْ

 

ويجثو بالفؤاد وهمٌ عاقرٌ

فيغزلُ الأوقاتَ من أعصابيهْ

**

أما يضم الغيثُ حيناً ربوةً

فتستحيل بيننا كغانيةْ

 

وتلتقي سحابتان , حينها

يهلُّ دمعُ الحب هلَّ الساقيةْ

 

فالحب جيشٌ فاتحٌ وربما

يزيدُ في مجد الفتوح الماضيةْ

 

لكنني لويتُ عنه مهجتي

ورحتُ أتلو للمنى آياتيهْ

 

تغشاني الأوهامُ إني صامتٌ

فربما يحلو حديثُ الغاشيةْ 

 
                                                                                             ربيع الأول 1424 هـ

شعر -- مهادنة الأمواج


تضاحك سُكْرُ الصبا في السمر

فبُحتُ له بلهيبِ القدرْ
**

وراقصت الذكريات الهوى

فقبّل فاها حنينُ الوترْ
**

ذوت في جفوني ورودُ الصبا

وأضرمت اليأسَ كفُّ الضجرْ

**
تصرّم عني ربيعُ الهوى

وجفّ من الروح وهجُ الشررْ
**

وأرخيتُ سمعي إلى ثورةٍ

 تُسعّر من قطرات الكدرْ
**

فقارعتُ كأسي بكأس الحياة

وضاجعتُها تحت عطف القمرْ 
**

تعرّيت من باقيات السنين

وعلّقتها في جدار السفرْ
**

وأجترُّ في الذكريات السراب

أسائله عن غناء المطرْ
**

وأبحثُ في الصمت عن ضجةٍ

تُبين خيط الرؤى في السحرْ
**

لتدلف للروح شمسُ الهوى

تعانق ليلاً وتحيي المدرْ
**

بعينٍ أحنّ إلى عينها

وأخرى إلى الوطن المنتظرْ
**

وألبسني الحب والفقر في

صقيع الحياة ثياباً أُخَر
** 

فرتّلتُ فاتحةَ الذكريات

بمحرابِ أزمنةٍ تستعرْ
**

عليه صلبتُ الفؤاد لكي

أكفّرَ عن نزقٍ بالبشرْ




                                                                                 محرم 1424 هـ

الخميس، 28 مارس 2013

الخطاب الوعظي المحلي .. تحليل وتقويم .

ظل الخطاب الوعظي جزءاً من ثقافة المجتمع لعقود خلت , في ظل غياب واضح لتعددية الرأي ومصادر التلقي الأخرى , وظل ذلك الخطاب الذي يتسم بالشحن والتعبئة متسيدا الساحة الفكرية , حتى بات المشهد في فترة من الفترات مبكياً لكل متابع لحالة التردي الفكري , والردّة الثقافية الواعية بالواقع وروح العصر !!

ظلّ الكثيرون مأسورين بخطاب لا يباشر حياتهم اليومية وهمومهم المعاشة , بل لم يكن سوى مخدّر موضعي للعقل كلما أراد الهروب من الهمّ اليومي , تماماً كالمخدّر الذي يذهب بالإنسان بعيداً عن واقعه ليعيش في عالم آخر .. إلا أن هذا المخدّر يختلف عن غيره بأنه يستثير القلق والمخاوف باستخدام وسائل تخويف مقلقة كـ عذاب القبر والشجاع الأقرع وشوي الجلود في نار جهنم , وليس مجرد تخدير تقليدي للهروب من الواقع إلى عوالم فانتازية أكثر راحة للأعصاب !

قد يغضب مني البعض في هذا التوصيف الذي أطلقته في حق الخطاب الوعظي , حسناً تعالوا لنحسبها قليلاً بالحقائق , لنرى هل هو تخديري فعلاً أم أنني مخطئ وأنه إلهي المصدر وشرعي الأداء والأدبيات ؟؟

إننا نعرف أن رسالة الإسلام لم تكن إلا للخروج بالعباد من عبادة العباد لعبادة رب العباد ولرفع الظلم عن الإنسان وهدايته وتحقيق حقوقه والحفاظ على ضرورياته الخمس .. هذا في الأصلين القرآن والسنة .. إلا أنه وبسبب التمذهب الذي عمّ كل قُطر من بلاد الإسلام فإننا سنجد أن كل مذهب لديه تصوراته عن ضروريات الدين التي يعنى بها , وفلسفته التي ينتجها ليلبس الدين بها , منطلقين من أيديولوجياتهم وثقافتهم البيئية الخاصة , والتي تدخل فيها عوامل أخرى من خارج الدين تماماً , ليست أقلّها السياسة ! وعليه فإنه تلك الثوابت الإسلامية الأصلية قد تحولت -ضمنياً دون تصريح- إلى هوامش لحساب ثوابت مذهبية أكثر إيغالاً في الانغلاق وتهميشاً للإنسان وحقوقه والبعد عن السياسة وتبعاتها والنأي عن الواقع المعاش والمعرفة الكونية وفهم أسرار التوازنات العالمية , وضعف الإدراك لما يدور خارج الحدود , وكل ذلك لممارسة عملية تخدير جماعي كوسيلة آمنة للخروج بالمتلقي إلى فضاء آخر يتم فيه تشكيل عقليته ووعيه والتحكم بتحركاته وتطلعاته . ثم إعطائه بعض الأمل في واقع آخر أكثر جمالاً !

فحين يخرج الوعظ من رحم هذه الثقافة المذهبية الضيقة , فإنه سينأى بنفسه عن الحقوق العامة والخاصة , وسينأى أيضاً عن السياسة ونقدها وتصحيحها , وسيقدم مادّته الوعظية تلك فقط في سياق المحافظة على تسييل اللغة الدينية المبرمجة مسبقاً ودعم استمراريتها في الحياة العامة وإثبات وجودها وفحولتها , دون أن ينتظر منها أن تؤدي لنتائج ملموسة على شؤون الإنسان اليومية ! ودون أن يهتم ذلك الخطاب بالخوض في مسائل التنمية والنهضة أو حتى إدراك أهميتها , فقد ظلّ خطاباً يستهدف الفرد الواحد في إطار التضييق على حرياته الخاصة دون أن يتجرأ على تقويم الشؤون العامة الأخرى : الاقتصادية أو السياسية أو التنموية . ودون أن يطرح مجرد الطرح لأسئلة النهضة الكبرى , ودون أن يُظهر أي اهتمام بها أو لها !

بل ربما جاء الخطاب الوعظي في سياق الداعم المباشر للخطاب السياسي , ومبرراً له في أحيان كثيرة , كمثل شرعنة عدم توسيع المشاركة السياسية بمصطلح كفاية أهل الحل والعقد , ودعم فكرة أن الديموقراطية انحلال وكفر وفرصة لتضييع الأخلاق .. والسكوت المتعمد عن حالة الهدر الحقوقي والمالي .. وفي هكذا خطاب ينأى بنفسه عن تقويم الأداء السياسي بمفهوم معاصر سيجد السياسي فيه ضالته المنشودة , فيحظى بالدعم اللامحدود ليستمر في تقديم نموذج ديني مدجّن .. ليمارس النأي بالرأي العام عن القضايا المصيرية والتي يريد السياسي أن يديرها وفق تصوره الخاص بعيداً عن التشويش !!

هكذا خطاب .. بدأنا نرى الكثير من مظاهر التمرد عليه , ليس من أتباع فقط بل من رموز وقادة كانوا في يوم من الأيام سادةً لتلك المنابر .. اليوم نجد حالة من التململ الذاتي في عمق بنية ذلك الخطاب , لأنه بات غير قادر على تسويق نفسه بذات الأدوات القديمة هذا أولاً .. وثانياً لارتفاع منسوب الوعي الاجتماعي العام مما دعا إلى ضرورة المراجعة الشاملة , إلا أنها لا تزال على استحياء في إطار مجاذبات بين شيوخ السلفية وشبابها الذين يتطلعون إلى لغة معاصرة أكثر إحاطة بمدركات الواقع , ولم تصبح بعد ثورة شاملة في كل مفاصل الخطاب ومحدداته .

سيقول قائل .. ومعه بعض الحق .. ماذا عن مذكرة النصيحة وخطاب المطالب اللتين قدّمتا في مطلع التسعينات .. وللإجابة علينا البحث فيما حوته هاتين المذكرتين في كونهما لم تطرح أكثر من رغبتها ورغبة تيارها في السيطرة على شؤون الحياة العامة لتمكينها من إدارة الحياة بذات الأدوات القديمة وليست بأداوات مناسبة .. فالحقيقة أن هذين البيانين لم يخرجا عن كونهما موعظة عادية تقليدية مغلّفة بمطلب سياسي !!

النظرة المستقبلية ..أو تصوري الخاص هو أن هذا الخطاب في طريقه إلى أن يصبح في أرشيف التاريخ , لأن خطابات أكثر مرونة منه وجدت طريقها إلى ذلك الأرشيف لعدم وجود منهجية المراجعة المستمرة والتقويم الذاتي الحر .. وهكذا التاريخ يصنعه الواقع وظروفه الزمنية وليست الإرادة الأيديولوجية .

أولى خطوات النهضة / نقد التراث



نحن دائما ما نرى الثمرة وننسى أن لها جذوراً قد كوّنتها ومدّتها بأسباب الحياة والنضج . وكثيرا ما نعالج النتائج وننسى الأسباب المولّدة لها . وعليه فقد نقيس هذا العيب فينا على كل مجالات المعرفة المُدركة التي نتناولها في حياتنا , ومن بينها لا شك أسئلة النهضة الكبرى التي تواجه الأزمة لكنها تستحي أن تبحث –تاريخيا- أسباب وجذور نكستنا اليوم .

 

تخرج التحليلات المؤدلجة كلّ واحدة تجيب عن السؤال خدمة ً لمنطلقاتها , فمنها ما يرى أسباب التخلف في ضعف الوازع الديني ومنها ما يراه بسبب الاستعمار والتبعية الإمبريالية ومنها ما يرى التخلف بسبب سيطرة الطبقات المخملية ...إلخ , إلا أن واحدة من تلك الأيديولوجيات – المشغولة ببعضها – لم تجب بجرأة وثبات أن المشكلة والخلل يكمن في بطن التاريخ العريض لهذه الأمة .

 

إن كل ما نشعر به من متواليات التخلف إنما كان له ما يغذيه في عمق تاريخنا .. فالاستبداد بكل أشكاله له جذوره , وله فقهاؤه المساعدون في شرعنته , وله سياقه التاريخي الكامل الذي أسس بنيانه الذي بني التاريخ والوعي والثقافة والتربية والسلوك الجمعي على مقوماته . 

 

وحالة رفض المعرفة والاستنارة وتعطيل العقل كل ذلك له جذوره المغذية التي أوصلتنا اليوم إلى تغييب الفلسفة والفنون وتحييد الإنسانية في دواخلنا , حتى أصبحنا لا نعرف ماذا نريد بالضبط ؟ ولا كيف نعيش ؟ ولا كيف نتفاعل مع العالم من حولنا ؟

لذلك فإن إعادة قراءة وتقييم التراث هو خطوة أولى لتصحيح المسار , تتبعه خطوات أخرى لتصحيح ما طرأ على الثقافة بكل شجاعة وإقدام , فالوقت لا يسمح , والأمم الوثابة من حولنا لا تنتظر .

ولكن يجب القول إن تراثنا ليس تراثاً غجرياً , وحين يكون الحديث عن مساوئه فلا يعني العقوق لانتمائه , ولا وأد جمالياته , فلا توجد حضارة في الدنيا إلا وفيها جوانب مشرقة إلى جوار أخرى مظلمة. ومن جماليات حضارتنا العريقة  تلك المنتجات المبهرة في كل العلوم بمختلف أنواعها , إضافة إلى بعض التجارب السياسية الناجحة في فترات مشرقة من التاريخ . ولكن هذا يعني وجوب أن يكون كل ذلك دافعاً للمراجعة والتمحيص بدافع النقد الذاتي الشجاع , والذي يؤسس لبناء مستقبلي صحيح .

 

الخطورة في هذا الموضوع والممانعة المتوقع بروزها أمامه هي تلك الشخصيات التاريخية التي أحيطت بهالات مقدسة رغم امتلاء سيرتها بأبشع أنواع القبائح , فتحاط سيرتها بشيء من القداسة وحرمة النقد  خدمة ً لأيديولوجيا معينة , أو تشابه سياسي مرحلي, فأٌقول : إن التواضع للحقيقة والشجاعة في إلغاء التقديس عمّن لا يستحقه هو أولى خطوات التصحيح , وبالتالي أولى خطوات الطريق الصحيح نحو النهضة .

 

 

هل الفلسفة ترف معرفي ؟؟

أحياناً تُمارس الدعوة إلى تعلم الفلسفة بشيء من عمليات التمظهر بمظاهر التنمية المعرفية دون معرفة حقيقة الاحتياج الفعلي والمستعجل لتعلم وتعليم أسس الفلسفة والمنطق في مراحل التعليم العام وبشيء من الصدق الفعلي الملحّ لضرورة الدعوة إلى تعلم وتعليم أبجديات الفلسفة في المدارس لجيل بدأ في التشكل خارج الزمن الواقع وخارج الثقافة السائدة .

الحاجة إلى تعلم الفلسفة والمنطق نابعة من الحاجة إلى النهضة في سياق إعادة تشكيل العقل الجمعي ( المستقبلي ) وكذلك الثقافة , بما يؤهله ويؤهلها بشكل حقيقي لفهم الحياة في إطارها المعرفي والإدراكي الواسع وليس المتشكل من مجموعة معطيات محلية انتهت صلاحيتها تقريبا في هذا العصر الذي أصبح فيه الإنسان أكثر تساؤلاً وجدلية وشبقاً للمعرفة وتطلعاً لآفاق أكثر اتساعاً من ذي قبل .

إلا أنه يجب فهم منطق الممانعة السالبة لحق الفلسفة في الحياة وحق الأجيال علينا في تعلمها , ذلك المنطق الممانع يعتمد على نقولات اجتهادية ترى أن الفلسفة بإمكانها زعزعة وإزاحة الثقافة السائدة من الذهن الجمعي مع الزمن , والحقيقة أن الفلسفة تجيب عن التساؤلات فقط , وتؤسس لدينامكية فكرية أكثر مرونة وأكثر انضباطاً بقواعد العقل الذي سيقوم بدوره بمحاكمة الثقافة السائدة ومن ثم إصلاحها , وليس نفيها أو إبدالها !

إن الفلسفة ضرورة معرفية ليس باعتبارها أم المعارف فقط , وإنما باعتبارها أداة حيوية من أدوات العقل في صناعة الحضارة الإنسانية والتأسيس لانطلاقها .. ومن هنا يجدر التذكير -تاريخياً- بأن العرب كانت انطلاقاتهم النهضوية والحضارية مع منتصف القرن الثالث الهجري أي بعد أن تمت ترجمة كتب الفلسفة اليونانية والتي بدورها لقحت الثقافة العربية وطعّمتها بتلك الأدوات الجديدة في التفكير والفهم وطرح الأسئلة , ثم صادفت بناءً قيمياً ودينياً وأخلاقيا فأضافت عليه وأثرته بإيجابية , ولم تزحزحه مطلقا , فحصلت الانطلاقة .. واستمرت النهضة العربية حتى جاءت عصور المدارس الدينية الرافضة للفلسفة بل والرافضة لللآخر المختلف في منتصف القرن الثامن تقريباً فحصل الإنهيار الشامل , وما أن تصادف ذلك الإنهيار مع بواكير خروج فلاسفة ما قبل عصر النهضة الأوروبيين حتى استلم هولاء الراية وحصل التداول السنني في مشهد تاريخي لا يزال صداه موجعاً لوجداننا القومي !!

إنها الفلسفة .. ببساطة شديدة .. سرّ النهضات الإنسانية وحضاراتها الممتدة عبر الزمن .. ولكن يجدر القول أيضاً أن من بين المحاربين للفلسفة أولئك المستفيدون من بقاء حالة التيه والضياع والتشتت , والمنتفعون من كل هذه المائدة التي تغذيها ضبابية المخارج المعرفية التي تجلوها الفلسفة بإتقان عجيب , وتمدّ الطريق إليها بالإضاءة الواعدة .. أولئك المنتفعون ليس شرطاً أنهم أعداء الأمة , بل الأمة نفسها حين تكون مشوشة الإدراك وغير واعية بالأخطار المستقبلية ومن بينها مستقبل العقل الجمعي والثقافة السائدة , والتي هي اليوم أمام مفترق طريقين : إما الثورة على نفسها وتجديد محدداتها وإصلاحها من الداخل , وإما هزيمتها في واقع طبيعته صراع القوة الذي لا يرحم .. ومن هنا دعت الحاجة إلى ضرورة طرح الفلسفة كـقضية تعليم وتعلم وتبني مواقفها إعلاميا .. وإن لم يقم المخلصون من مثقفي الأمة والمهمومون بطرح أسئلة النهضة فمن سيقوم بها ؟

إن المسألة لا تتطلب أكثر من سياسي واعٍ وتعبئة إعلامية مقدور عليها , ثم إقرارها في الجامعات كخطوة مرحلية أولى تتبعها تعيين أولئك المتخرجين في الفلسفة إلى معلمين في ميدان التعليم العام .

هذا إن أردنا أن نبي جيلاً وثّاباً طامحاً وقادراً على أن يحافظ على منطلقاته الدينية وسط عالم يمور بأسئلة جدلية خطيرة وموجعة , تنوء تلك المدارس الدينية نفسها ( العقدية منها والفقهية ) بعبء الإجابة عنها .. ووحدها الفلسفة قادرة على أن تجيب على تلك الأطروحات باحترافيتها المعتادة في وضع كل شيء في مكانه الصحيح بواسطة الاستخدام الأمثل للعقل .

ولذا فسأختم بهذه الحقيقة الطريفة : إن من يعادي الفلسفة تعليماً وتعلماً هما أحد فريقين : فريق متشدد مغالِ ومقلد لاجتهادات سابقة ويرى إغلاق باب العقل ! وفريق ملحد يزعم أنه وصل إلى مادية الكون ويرفض طرح أسئلة التكوين الإلهي التي تطرقها الفلسفة بكل صدق وإيمان
!
فريقان متناقضان مختلفان في كل شيء حدّ التنافر الصارخ .. يجتمعان في شيء واحد : كراهية الفلسفة لأنها تنسف ذلك الضياع الناشئ عن نظريات هذين الفريقين المتخبطين عبر التاريخ .

الأربعاء، 27 مارس 2013


الحاجة إلى الفنون

إن الفنون ليست من قبيل التسلية أوالترف الذي قد يتوهمه البعض حاجة ً ثانوية تأتي بعد الأسس المعرفية الأولى .. بل تكاد تكون من الأسس التربوية الأولى التي يجب أن يُلفت لها حسّ الناشئة والأطفال ليتم بناء ذواتهم ووجدانهم على الجمال وتذوقه !

 

إن أي مجتمع لا تأخذ فيه الفنون مكانها الرفيع من الاهتمام فإن ذلك المجتمع سيعاني معاناة شديدة في مجال التربية , لأن الفراغ الوجداني الذي يجب أن تملأه الفنون ستملؤه سلوكيات أخرى تفتقد للتهذيب والحس المسؤول .. وهذا ما نراه في مجتمعنا ماثلاً خصوصاً عند طلاب المرحلتين المتوسطة والثانوية وما نشاهده من تصرفات لا يمكن أن تنطلق إلا من ذلك الفراغ الوجداني والذوقي الهائل , وضعف التربية المدنية التي لم تطرقها قط مؤسسات التربية ؛لانشغالها فيما يبدو بتفقيه النشء وحشو ذهنه بالمسائل المعرفية اللازمة له لينشأ ضمن بنية التفكير الجمعي بدون أن يلتفت لبناء الذات وتهذيبها وتحفيزها على المساهمة والمشاركة في بناء وتطوير وتنمية نفسها وما حولها .

 

الموقف من الفنون يأتي في سياق اجتهادات مذهبية لا يلتزم بها دينٌ كامل يحوي جملة من التنوعات الجميلة بداخله بإمكانها أن تسدّ كل حاجات متبّعيه المختلفين عن بعضهم باختلاف أقاليمهم وثقافاتهم .. ولست بصدد التأصيل الشرعي لبعض الفنون فهو ليس مجالي .. إنما مجالي أبسط بكثير , وهي رؤيتي لطفل صغير يتراقص ابتهاجاً لسماعه موسيقى طفولية , في حين أن : ما من مولود يولد إلا على الفطرة ! أوليس هذا التصرف إذن سيكون من الفطرة ؟

 

بعض الأسر تمارس جريمة بحق أطفالهم حين يمنعونهم من الرقص على أغنية يسمعها الطفل فجأة في التلفاز أو غيره ..إنها جريمة بحق الطفولة وبحق التربية الوجدانية للطفل بحيث يتم مسخ الإنسانية في داخله ..وينشأ كما لو أن الحياة لا لون لها ولا رائحة ولا طعم .. يصادف كل ذلك تربية ضعيفة وتأسيس حضاري هشّ في مؤسسات التعليم وفي المساجد وفي البيوت .. فما أن يصل إلى مرحلة المراهقة حتى يظهر إنساناً تقريبا لا ينتمي لجنس البشر .. متجرداً من كثير من القيم ومن الحس ومن الذوق , فينشأ مسخاً ضرره أكبر من نفعه .. لا يحترم كبيراً ولا يرأف بصغير , ولا تسلم منه المرافق العامة والجدران والشوارع , ويصبح مشروع مجرم صغير يكبر على الإجرام أو أن يصل إلى مرحلة يملّ فيها من كل شيء فيلجأ إلى التدين وفق النموذج الساذج لمفهوم التدين كردّة فعل تلقائية بسبب تأنيب الضمير , فينشأ أيضاً واعظاً مسخاً يمارس نفس التحذير من فنون كان يمكن لها منذ البداية أن تهذب تصرفاته الأولى فتختصر عليه وعلى أهله الكثير من هذا الطريق الموحش !!

 

لا يمكن أن نكذّب كل تلك الدراسات الحديثة التي تثبت جدوى الفنون في تنمية الحسّ والوجدان وأثرها الإيجابي في بناء الذات وترويض العقل على الرقيّ والتوازن النفسي . لا يمكن أن أكذّب كل ذلك في مقابل اجتهادات مذهبية لها أفهامها الخاصة ولها ما يخالفها ويفوقها قوة وحجة وبرهاناً واحتراماً للعقل الذي سيبدأ تلقائياً بالمقارنة والتساؤل عن أثر نغمة جميلة أو لوحة تشكيلية , والخطورة التي يمكن أن تشكلها تلك الجماليات على العقيدة والدين ؟؟

 

لابد من معرفة أثر ما يسمى بالإيحاء الذاتي , الذي يحاول الإنسان معه أن يوجد مخرجاً عقلياً بين ما يتلقاه وما يظهر أمامه من بدهيات , ليحوّر تلك البدهيات المنطقية إلى متوائمات تتسق مع ما يتلقاه , فيبدأ بإقناع نفسه أن القرآن لا يمكن أن يحفظ مع سماع الغناء !! ورغم أنني شخصياً أستطيع أن أحفظ الآيات القرآنية في وقت وأسمع الغناء في وقت آخر ولا أجد بين كل ذلك أي تناقض والحمد لله ,إلا أن الغالبية العظمى من الناس استطاعت أن ترصف أفكارها وقناعاتها بهذه الإيحاءات التي خرجت حتماً من رحم الحيرة بين المتلقّى وبين المنطقيات البدهية التي تبرز فجأة في العقول !!

 

يقول شكسبير : احذر من ذلك الشخص الذي لا يحب الفنون !!

ما الذي يخنق العقل ؟؟


ما الذي يخنق العقل ؟؟

 

 

يتعلم الإنسان ويسافر ويختلط بالآخرين ويستوعب عشرات الثقافات الأخرى غير ثقافته الأم .. لكنه في بعض الأحيان لا تزيده كل تلك المقومات إلا استمساكاً بأيديولوجيته التي أنشأ نفسه عليها واعتقدها واستمات في فرضها ونشرها وربما إكراه الآخرين عليها !!

 

 

كل تلك الاحتكاكات بالآخر في بعض الأحيان لا تزيده إلا تخلفا ورجعية لأنها محكومة بتلك الأيديولوجيا الخانقة التي استحكمت على دماغه فلم يعد يرى الأمور إلا وفق معايير تلك المحددات التي ترسمها تلك الأيديولوجيا في عقله , فتنطلق كافة التصورات والأفكار من خلال ذلك الخرم الضيق الذي يسمح به مجال تلك الأيديولوجيا .. فيبدأ في تقييم ما حوله وفق قياسات ذات المنطق الأيديولوجي المسيطر عليه وليس وفق المنطق الإنساني والعقلي المفترض .. فيستغرب البعض من حماقة وغباء أستاذ جامعي حاصل على الدكتوراه أو من صفاقة وسفه داعية سافر إلى أصقاع الأرض وربما يجيد الحديث بأكثر من لغة ..دون أن يعرفوا السر وراء تلك الحماقات والغباوات والسفه والطيش !!

 

 

السر هو في تلك الأيديولوجيا التي تضع العراقيل أمام انطلاق العقل وتحرره .. أمام الحكمة وحسن التدبر والتدبير .. أمام بعد النظر ووزن الأمور بميزان العقل لا بميزان ما يجب وما لا يجب في عرف الأيديولوجيا أو الحزب أو الجماعة أو حتى القبيلة والعائلة ... فإن فُهم ذلك السر عُرف كيف تتم صناعة الغباء والحمق حتى في عقول بعض الحاصلين على أعلى الدرجات العلمية !!

 

 

يقول غازي القصيبي في معرض حديثه عن القذافي : يعتقد البعض أن القذافي معتوه .. إن من يجلس مع القذافي يكتشف أنه رجل في غاية الذكاء والدهاء .. ولكنه مصاب بجنون العظمة . اهـ

القصيبي – رحمه الله - فسّر لنا سر ( عَتَه ) القذافي الذي كنّا نراه به.. إنها حالة شبيهة باستحكام الأيديولوجيا على أبنائها وأتباعها المؤدلجين .. إنها حالة مرضية اسمها جنون العظمة حين لا يرى العالم إلا من خلال شخصه .. هنا سيختفي العقل وسيظهر ذلك ( العته ) تلقائيا .. في حالة شبيهة بـ عته وحمق بعض المؤدلجين حين تغيب عقولهم تحت ستارة الأيديولوجيا القاتمة , وتذوب إرادتهم أيضا في محدداتها ومعاييرها المصنوعة لأغراض تلك الأفكار التي صنعت وروجت من خلالها !!

 

 

تسير العملية الفكرية ( المؤدلجة ) بديناميكية خاضعة لفلسفة ورؤى تلك الأيديولوجيا المستحكمة أياً كانت , فتبدأ تلقائيا في إخضاع كافة العمليات العقلية وكذلك تفسير كافة الظواهر الحياتية وفق إرادة الأفكار التي تصب لمصلحة تلك الأيديولوجيا حتى لو ابتعدت عن الحقيقة مئات السنين الضوئية .. والمصيبة فيما لو جاءت تلك الأفكار صادمة للناس ومضحكة .. إلا أن الغريب هو في سيطرة الأيديولوجيا على العقل المعتقل لديها إلى تلك الدرجة التي لا تتركه لبرهة يتأمل ويقيس فكرته وواقعيتها ومدى مصادمتها للناس , وربما لا يشعر أيضا بالازدراء الذي سببه لنفسه بأفكاره التي يبثها ولا يشعر بمدى الاستخفاف الذي يواجهه .. أو ربما يصبر على كل ذلك .. معتقدا أنه - على صبره - سيكون انتصاره في النهاية أو ( حصوله على أجر ما ) ... ولو تخلص قليلا من قيود الأيديولوجيا .. لعرف كم هو سخيف جدا أن يُظهر نفسه بذلك المظهر !!

 

 

إنها الأيديولوجيا  التي تنبثق عادة من مصالح اقتصادية أو سياسية أو فكرية أو اجتماعية ولو تلبست بثياب المبادئ والقيم الإنسانية .. حتى حين دخلت في الأديان أفسدتها ونحَت بها ذلك المنحى الذي يسيغ القتل وسفك الدماء لمجرد الاختلاف في الفكرة أو حتى لمجرد الفهم وفق أدوات المنطق الأيديولوجي الملتصق بالدين .. مما تسبب في انحراف الأديان وخروجها عن إنسانيتها وروحانيتها ودورها الحقيقي في المساهمة في الحضارة البشرية عبر التاريخ !!