السبت، 22 فبراير 2014

سبعٌ عِجافٌ



    هي سبعٌ أكلت زهرة شباب يوسف , ذلك السجين في القرن العشرين , وليس في تلك القصة القرآنية التي اقتبس الكاتب سعد آل سالم أيقوناتها الدلالية ؛ ليُسقط درامية تلك القصة القرآنية على قصة أخرى مشابهة لها في الروح والمضمون . ذلك الاستحضار القرآني الرائع لقصة واقعية عايشها بنفسه قد أنتج إسقاطاتٍ وجدانية جديرة بالقراءة الضوئية الكاشفة لآفاقها . إنها سرديات يومية , أو يوميات على هيئة سرد . ليست رواية كي نقرأها وفق النسق التقليدي للرواية , برغم حمولتها القصصية الدرامية التي أتقنت العرض السردي في ترتيب الأحداث وكثافة التفاعل بين شخصيات القصة , كما أبدعت في تصوير لحظات ( سينمائية ) حين بدأت القصة بالصورة الأخيرة , وهي إعطاء يوسف المذكرات الخاصة به للصحفي , ثم بدأ ذلك الصحفي في عرض تلك المذكرات , فكانت تلك السرديات التي شكّلت هيكلية القصة , لتأتي اللقطة الأخيرة في القصة لتذكّر باللقطة الأولى حين سمح يوسف للصحفي بنشر تلك المذكرات .

    هذا البناء السردي ( السينمائي ) يشابه بناء قصة يوسف القرآنية , حيث بدأت تلك القصة بحديث يوسف عليه السلام لأبيه ما شاهده في المنام من سجود الشمس والقمر والكواكب له , ثم بدأت الحكاية القرآنية في التسلسل عبر منعطفاتها السردية  إلى أن وصلت إلى منتهاها بذلك التذكير باللقطة الأولى ( ذلك تأويل رؤياي من قبل ) لتكتمل صورة إسدال الستار على مشهد القصة بشكل تام ومحكم .

    ما يجب أن نقرأه في قصة (سبع عجاف) هو أكبر من تلك الفنيات التي يمكن قراءتها بأشكال مختلفة . إن (سبع عجاف) رسالة وطنية تحمل ما هو أبعد من فنّ سردي أو قصصي يتم عبر تقنية تقليدية قد تفقد مفعولها فور الانتهاء من قراءتها . إن ( سبع عجاف ) تحمل قيماً أكثر عمقاً , إنها تحمل رسائل التسامح , والتعايش , والشراكة الوطنية , وبناء الثقة بين أبناء مجتمع واحد يجمعهم مصير مشترك . بل إنها رسالة تحاول أن تستفزّ ذلك الشعور المخبوء تحت رماد القلق الجمعي من المصير الواحد .

     (سبع عجاف) كشفت شيئاً من حكاية مرّت في ذاكرتنا الوطنية بشيء من الغموض والشائعات والحكايات المجهولة . لم يتعمد المؤلف أن يؤرشف الحكاية تاريخيا , لكن سردياته العفوية جاءت كما لو أنها شرحت جزءاً من تلك الحكاية . الأهم هو أنه رسم صورة وجدانية صافية للمشاعر التي ستحلّ ضيفاً على أي سجين فور أن يحلّ هو ضيفاً بأي سجن . ذلك السجن  الضيق مكاناً بالنسبة للجسد , والأوسع فضاءً بالنسبة للروح , حين تحلق في عوالمها اللامتناهية , فتستحضر كلّ ما خطّته السنوات , ليُقرأ في تلك العزلة مع الذات , فتكتسب الروح السجينة حرّيةً أخرى بمعراجها في عوالم روحية شفّافة , فتبدع حريتها وفق منطق جديد يكتسبه السجين بدوافع مستوحاة تلقائيا من الجدران المغلقة والصامتة التي تنظر إليه وهي تحثّ إرادته على كسر صلابتها المعنوية , أو النفاذ من بين دلالتها الوجودية.

     القارئ لـ (سبع عجاف) ربما سيأخذ على المؤلف لغته المباشرة والواضحة حين كتب قصته , وربما سينظر من خلال نظارة تبحث عن الأدوات التقليدية لكتابة أي عمل قصصي . يجب القول إن (سبع عجاف) هي رغبة مباشرة من المؤلف صاحب التجربة في أن تصل الرسالة بإسقاطاتها المليئة بما يمكن أن يقال إلى أكبر شريحة ممكن لها قراءتها . فقد أراد أن يصل إلى الجيل الجديد مباشرة ؛ ليوصل له رسالة ومضمون تلك السرديات بشكل سلس وشفاف , ومباشر أيضاً .

    إن قيماً كالتسامح , والتعايش , والمحبة , والسلام , والتفاهم , والعمل على المشتركات الوطنية والدينية والبيئية والثقافية , لَهي قيمٌ يجب على التعليم العام أن يعزّزها في أرواح الناشئة , وحملة الأقلام أن يُبرزوها , وأصحاب المنابر أن يبثّوها , والآباء أن يزرعوها , والأمّة كلها أن تؤكدها كميثاق شرف يرسم خارطة طريق يبني مستقبلها وقوتها .

    قيمٌ تصنع المستقبل وتحدد المصير وترسم لنا وطنا حاضناً وجميلاً جديرةٌ بأن تصل بمباشرة وسلاسة ووضوح وسرعة وتأكيد . تلك القيم هي التي حملها رحم تلك الحكاية اليوسفية التي رقصت قيمها العالية بين دفّتين.

      بعد ( سبع عجاف ) , نريد أعواماً مديدة , فيها يغاث الناس وفيها يعصرون . هكذا يقولها لسان حال الشاب يوسف , ويقولها معه جيل جديد يصرخ بصوت مسموع : نريد وطناً أجمل !

                                                                    

الخميس، 13 فبراير 2014

فتح ملفات الصحوة (3-3)


-       هل سقطت الصحوة فعلاً ؟
-       وكيف سقطت ؟
-       ولماذا سقطت ؟
      بُعيد أحداث حرب الخليج وأجواء التوتر المصاحب لتلك اللحظة السياسية الفاصلة , وبعد أن انقضى شهر العسل بين الصحوة والسياسي الذي أعطى لها الضوء الأخضر طيلة عقد كامل عقب أحداث الحرم المكي مطلع عام 1400هـ , بعد كل ذلك وخلال ثلاث سنوات من التعبئة الصحوية والحشد لمطالبات تمثلت في (خطاب المطالب ) والذي أعقبته فوراً – لعدم وضوحه – (مذكرة النصيحة ) ليشكل هذان البيانان فيما بعد الحدّ الذي غيّر الاستراتيجية السياسية في التعامل مع الصحوة , لكنه لم يُتخذ بعد أي إجراء على مستوى الحياة المدنية , إذْ يتضح أن الدعم والمهادنة للحالة الدينية لا تزال استراتيجية استمرت حتى بعد ( إعلان الحرب ) الذي اتخذه خطاب المطالب ومذكرة النصيحة في سياق واقع دولة ملكية تتخذ أسلوب المركزية الإدارية من مبدأ الأبوة السياسية للجميع . بُعيد كل ذلك , قامت احتجاجات في منطقة القصيم على إثر اعتقال الشيخ سلمان العودة , إلا أن الملفت أن تلك الاحتجاجات لم تتعدّ الدوائر الصحوية التقليدية في تلك المنطقة !


     كانت الصحوة تعوّل كثيراً على تفاعل الناس مع القضية , وتنتظر أولئك المئات الذين كانوا يملأون المساجد لحضور محاضرات الشيخ العودة والحوالي الذي اعتقل هو الآخر . إلا أن نتائج التعبئة والحشد لم تتعدّ المناصرين القريبين . هذه النتيجة كانت متوّجة لجهود عقد كامل انقضى والصحوة هي اللاعب الوحيد على الساحة , والأحداث المفصلية الكبرى تمرّ من تحت إدارتها الفكرية لصياغات ردّة الفعل . فكانت مخيّبة لآمال القائمين على تلك التعبئة خصوصا في المدن الكبرى . هذه الإشارة بالذات هي التي يمكن أن تؤشر لبداية انكسار موجة الصحوة كظرف ثقافي بدأ في الأفول , بعد ثلاث سنوات من إعلان جورج بوش الأب النظام العالمي الجديد !


      انكسرت الموجة , لكنها بقيت كظرف ثقافي مستمر . وحين جاءت أحداث 11/ سبتمبر , تسبب الحدث في صدمة وارتباك حتى للصحوة نفسها .. كانت قد مرّت ثلاث سنوات على إطلاق سراح رموز الصحوة الذين شجبوا الحادثة أول الأمر , ثم دعوا إلى ما يشبه المبادرة عبر ( بيان التسامح ) الذي جاء أول الموقعين عليه سلمان العودة وسفر الحوالي . ولكن وللأسف تم الانسحاب من هذا البيان تحت ضغوط جماهيرية , حيث حمل البيان دعوة إلى التسامح مع الغرب لم يستسغه الجمهور الصحوي ذلك الوقت .


     هنا مؤشر جديد أيضاً أسهم في الدفع بعملية الانكسار إلى آخر مراحلها , حيث لم تضغط تلك الرموز على الجماهير بإصرار للدخول في الظرف الفكري الجديد الذي فرضته ظروف عالمية , بل رضخت هي لتلك الجماهير مفسحةً الطريق للسقوط التاريخي الطبيعي في مثل هذا التصلّب الأيديولوجي غير الواعي بحركة الأحداث المتلاحقة وتداعياتها . كل ذلك قد حمل الأقلام المناوئة للصحوة للانطلاق , محمّلةً بولادة حقبة ثقافية جديدة . وحين جاء الإرهاب , كان المشهد يعكس صورة النفسية العامة للمجتمع الذي بدأ في إدانة التشدد بأنواعه , ومعلناً موضة جديدة من ادّعاءات الوسطية , حتى عند أبطال تلك التعبئة القديمة , مما أعطى المرحلة صيغة إعلانية جماعية لاستقبال عهد جديد من قيم أكثر انفتاحية ومرونة . في تلك الأثناء أومضت لحظة ليبرالية خاطفة في مشهد الحياة الفكرية في المملكة , لم تصمد هي الأخرى بسبب أنها جنّدت نفسها للانتقام التاريخي من الصحوة التي كانت تُقصي من حولها . حتى وقعت فيما وقعت فيه الحالة الصحوية من إقصاء ملحوظ ورفض للتسامح , دون أن يكون لها أي خطاب محدد الملامح , أو مشروع وطني أو فكري كالمشروع الصحوي ( المتوجه إلى المجتمع) . لم تكن المخرجات الليبرالية أكثر من ( مظلوميات ) احتجاجية ضد ذلك الخصم التاريخي , وضد حقبة زمنية عاش ذلك الخصم بطولتها بالطول والعرض .


    اللحظة الليبرالية هي الأخرى تبخرت بتبخر الأحلام العامة المواكبة لحالة إحباطات متناسلة من عدة قضايا , على سبيل المثال :
-       مخرجات الحوار الوطني .
-       مخرجات الانتخابات البلدية .
-       بطء الإجراءات الإصلاحية .
-       حالة التضخم الاقتصادي , والتقلص السلبي للطبقة المتوسطة .

     تجدر الإشارة إلى أن تلك اللحظة الليبرالية , وإن انتهت كظاهرة صوتية وإعلامية , إلا أنها باقية كظرف ثقافي أعمق . قام هو الآخر على الظرف السابق . إلا أنه نتيجة طبيعية لمرحلة زمنية جديدة , نبتت قيمها الفكرية كنتيجة تلقائية للظرف الثقافي الجديد , وليس كنتيجة جهود نضالية لتيار بعينه .


       حين جاء الربيع العربي , لم تظهر في سماء المملكة أي حالة ثقافية يمكن أن تتصدر المشهد الفكري وتقوده في هذه المرحلة . جاء الربيع العربي والمملكة تشهد ما يُشبه الفراغ , بصرف النظر عن الوجود القائم للجميع , ولكن بالحديث عن حالة ثقافية صاخبة ومؤثرة فلا يمكن الجزم بوجود تلك الحالة التي كان يمكن لها أن تتفاعل بمثل ذلك التفاعل الصحوي إبّان حرب الخليج , أو التفاعل الناصري مع بيانات عبدالناصر النارية , كحالات لتلك الظروف الثقافية الدالّة على وجود فعلي لذلك الظرف المتعاطي مع المتغيرات الإقليمية حوله . بل يمكن اعتبار مرور الربيع العربي بهدوء وسلام على المملكة دلالة على وجود فراغ ثقافي , حيث ترجّل الجميع عن المسرح بعد جدل تبادلي مُنهك . إلا أن ذلك المسرح – في تصوري- لم يلبث أن اعتلاه جيل جديد , في مشهد جديد , وبحلّة زمنية جديدة , وبوعي جديد وملحوظ . شباب قدّموا (فكرياً ) ما لم تقدمه الصحوة خلال عقود . أنشأوا برلمانهم الافتراضي الخاص بهم , وأقاموا أحلامهم بعيداً عن مؤطرات الأيديولوجيا الضيقة . يعايشون همومهم اليومية , ويتعايشون مع اختلافاتهم المتعددة . نقاشاتهم الصاخبة مسموعة إلى درجة أن وسائل إعلام كثيرة أصبحت تعتمد في أخبارها على إنتاجهم .. والملفت أنه حتى الأجهزة الحكومية أصبحت تتابع وتتفاعل مع هذه اللحظة الصاخبة .

هل هذه اللحظة خاطفة كاللحظة الليبرالية ؟ أم مستمرّة كالحقبة الصحوية ؟
أعتقد أننا في بداياتها , ونظراً لديناميتها السريعة , لا يمكن التنبؤ بما يمكن أن تؤديه ثقافياً . وقد نحتاج إلى سنوات لتقييم منجزاتها , وكذلك فتح ملفاتها هي الأخرى .

هذه اللحظة التي يمكن أن نسمّيها الآن ( الظرف التويتري ) !

تمّت


مراجع ومصادر الأجزاء الثلاثة :

-       الحراك الشيعي في المملكة – بدر الإبراهيم ومحمد الصادق .
-       زمن الصحوة – ستيفان لاكروا .
-       السعودية سيرة دولة ومجتمع – عبدالعزيز الخضر .
-       المملكة من الداخل – روبوت ليسي . 

الجمعة، 7 فبراير 2014

فتح ملفات الصحوة (2-3)



     خَلُصت المقالة السابقة إلى نتيجة مفادها أن الصحوة لم تكن أكثر من سياق فكري مرحلي يدخل في منظومة التداول السُنني للأفكار والاتجهات ,وأن الحاضر يحمل في رحمه ولادة سياق جديد تماماً , أو ربما قد ولد فعلاً ونحن نعيش الآن ظروف نشأته الدراماتيكية الصاخبة . ما نحن بصدده هو محاولة لفتح ملفات حقبة زمنية ماضية وموغلة في التعقيد والغرابة , والجديرة فعلاً بسبر أغوارها ودهاليزها , ثم تقييمها من وجهة نظرٍ التزمتُ بها منذ المقالة السابقة , وهي وجهة نظر الجيل الشبابي الجديد , عبر تقييم آثارها التي شكّلت قاعدة الوعي عند هذا الجيل , ثم ضغطت بمخرجاتها في اتجاه سياق زمني مختلف .


·     الصحوة والجهاد
     في كتابه ( زمن الصحوة ) يخلُص ستيفان لاكروا إلى نتيجة أن الحالة الدينية في المملكة هي جملة تيارات تحمل في مكنوناتها صراعاً بينياً واضحاً , وقد توصل المؤلف أيضاً إلى براءة الصحوة من الحالة الجهادية , كون أن الجهاد كان يتلقى الدعم الأبرز من التيار الجهادي وليس التيار الصحوي , كما أن العلاقة بين التيارين لم تكن على ما يرام , وأن الصحوة حذرت أتباعها من الانخراط في المشروع الجهادي , باستثناء الدعم المعنوي وربما المالي . أما الدعم بالعناصر القتالية فقد كانت مهمة التيار الجهادي . وبذلك يمكن التوصل إلى نتيجة طريفة : وهي أن الدولة كانت في الموضوع الجهادي والدعوة إليه أكثر راديكالية من الصحوة نفسها , والتي –ولأسباب عدة- رفضت الدخول في الحالة الجهادية ! وبذلك , فإن مهاجمة الشريان في برنامجه (الثامنة) على سلمان العودة تحديداً لم يكن دقيقاً وقد خلط عدة أوراق ببعضها . لكنه صدق في حالة العرعور الذي يعتاش أساساً على الحالة الدينية السعودية , وفقاً لمجال المناورة المرسوم فيها .

نأتي إلى السؤال المهم هنا : هل الصحوة بريئة من الإرهاب ؟

     ربما كانت مهمّة ستيفان لاكروا في كتابه أن يوضح الحقائق مجرّدة من أي إضافات قد تنطلق من منطلقات نقدية أو تقييمية . لذا فمهمتنا الآن الإضافة إلى تلك الحقائق بالقول : إن الصحوة وإن كانت على خلاف مع أبجديات العنف , إلا أنها خلقت تلك الحالة الوجدانية التي وصفناها في المقالة السابقة بـ (الظرف الثقافي) الذي ميّز خصائص تلك المرحلة . فالصراع الذي خاضته الصحوة مع الجميع , وتلك العزلة التي أعطتها لأتباعها , وذلك الفصل القسري الذي حملت المجتمع عليه وعزلته عن العالم وعمّا حوله , والطريقة التي كانت تتعاطى بها مع مخالفيها , كل ذلك قد خلق تلك الأرضية الخصبة التي يمكن أن تنشأ فيها أي دوافع محفّزة للعنف ورفض الآخر . حتى وإن لم تكن على علاقة مباشرة به . فيكفي أنها خلقت – بوعي أو بدون وعي – المناخ الملائم لزرع ثقافة رفض الآخر , ورفض التسامح , وعزل الفرد عن الحياة , وصرف الهمة والطموح عند الناشئة والشباب إلى محددات وعظية تتناول شؤونه السطحية وتعلّقه بالغيبيات , أكثر من أن تؤهله لاستعداد التنافس الحضاري , وطرح أسئلة النهضة , والدخول في صراع التنافس الأممي .

      قد يكون من غير المنطقي مطالبة الصحوة بأكبر من دورها الذي كانت تؤديه بحسب معطياتها , ولكن كما قلت في البداية : نحن نقوم بعمل تقييم زمني لحقبة ننظر إليها الآن من وجهة نظرنا التي تسعى من أجل استكشاف مكامن الخلل , والاستفادة من دروس التاريخ , ومحاولة فهم ذلك السياق .

·     الصحوة والمرأة
       يجب أن نشير إلى أن الصحوة بما أنها كانت حالة (دينية) فيفترض بها أن تكون كذلك حالة تصحيح ديني لوضع المرأة في البيئة . إلا أن الخطاب الصحوي فشل في تصحيح وضع المرأة , بل ربما زاد على وضعها سوءاً إلى سوء . فالخطاب الصحوي مثلاً لا يجهل بأن صوت المرأة لم يكن عورة في يوم من الأيام , ولا يجهل كذلك أن حضورها الفاعل في الحياة العامة هو حقيقة تاريخية عابرة لكل العصور التي تنادي أبجدياتُ الصحوة بالعودة إليها ( فهماً وتطبيقاً وطموحاً ) كأحلام منتظرة . فلماذا تواطأت الصحوة مع المحددات البيئية ضد المرأة ؟ ولماذا لم تصحح وضع المرأة إلا بالدعوة إلى تحجيم دورها الوطني والحياتي , ومنع حضورها على مسرح المشهد العام ؟ كل ذلك , والصحوة لا تجهل مرجعيتها الدينية والفقهية التي تفترض واقعاً آخر للتعامل مع المرأة في الإسلام , إلا أننا لم نشاهد إلا تواطؤاً مع التقاليد الاجتماعية في تكريس النظرة التقليدية إلى المرأة , بل والذهاب إلى أبعد من تقليدية تلك النظرة التي كانت أقلّ حدّة في زمن ما قبل الصحوة , عبر شرعنة تلك النظرة وإلباسها اللبوس الديني اللازم لتسويقها وتكريسها . أدّى كل ذلك إلى المزيد من تعقيد العلاقة بين نصفي المجتمع , حتى بتنا مجتمعاً مفرط الحذر والوسوسة في نظرية العلاقة الطبيعية بين الذكر والأنثى .


·     الصحوة والحياة العامة :
      كان للصحوة إسهامات ضخمة في صياغة شكل الحياة ورسم أُطرها في ذهنية المجتمع , حتى نشأة جيل على علاقة متكهربة نوعياً مع كل مظاهر البهجة والسرور الطبيعية والبريئة . فاستهداف الورود , وكذلك الفنون , والتحذير المستمر منها , قد أنتج حالة من فساد الذوق عند جيل جديد , وانعدمت مظاهر الرقيّ السلوكي والمدني الذي يفترض بالفنون وقيم الجَمال أن تهذّبه في الناشئة . وعمّمت اجتهادات فقهية لم تعرف الاعتراف بالآخر المختلف , وتمّ حشو أذهان الناشئة بتزييف كبير جداً تمثل في التخويف المستمر من الحياة ومن الموت ومن المرأة ومن الفنون ومن كل ما يحيط بالفرد , حتى نشأت تلك النفسية المتوترة -أغلب وقتها- من كل ما يحيط بها , والمبادرة دائما إلى تقديم افتراضات سوء النية والمؤامرة والشعور بالاستهداف الدائم . هذا بطبيعته سيولّد تلقائياً وجداناً مأزوماً من كل شيء حوله , حتى يصل إلى مرحلة الأزمة مع ذاته ليخلق تناقضاته الصارخة . فأصبحنا نرى أشكالاً من الانفصام في عمق ذهنية الفرد بين تصرفاته الخاصة التي لا يعلم بها أحد , وبين ما يقوله في العلن مجاراةً للظاهرة الصوتية المرتفعة !

      هذه بعض الملفات , وليست كلها , وهي كما ذكرت سابقاً : تحتاج إلى مشروع أضخم من مجرد مقالات مهمتها الإشارة السريعة لأفكار محددة . وفي المقالة القادمة والأخيرة , سنتناول آلية سقوط وتهاوي بنيان الصحوة , وكيف سقطت ؟ ولماذا سقطت ؟ والعناصر المؤثرة في سقوطها . ثم سنتناول تلك ( اللحظة الليبرالية ) التي أعقبت أحداث سبتمبر , وكيف سقطت هي الأخرى ؛ كونها حملت ذات العناصر التي حملتها معها حقبة الصحوة وأدت إلى سقوط الحالتين معاً !


الأحد، 2 فبراير 2014

فتح ملفات الصحوة (1-3)




       تناول مغردون سعوديون على التويتر هاشتاق ( فتح ملفات الصحوة ) وفيه بدت مختلف الآراء التي عبّرت عن حقبة زمنية عاشها السعوديون وبدأوا - فيما يشبه المراجعة الشاملة – في إعادة تقييم تلك التجربة بكل ما حملت . تراوحت تلك الآراء بين النقد العشوائي وتصفية الحسابات إلى التمجيد الكامل لتلك الحقبة , ووسط هذين الطرفين المتطرفين ضاعت الحقيقة المرجو بحثها وتقييمها بأبعادها الحقيقية في موازين الحقائق المنطقية .

       ولست هنا بصدد إعادة تقييم شامل لمنجز الصحوة فهذا عمل يحتاج إلى مشروع ضخم , وقد كتب عنه الكثير فيما كتب عن تلك الحقبة , إلا أنني في هذه الأسطر القليلة سأشير إلى عدة أمور مهمة , ومن وجهة نظر جيل فتح عينه على واقع تلك الحقبة , ثم سمع فيما بعد صوت ارتطام سقوطها الدراماتيكي .هي أمور يجب أن توضع في حسبان كل من يتطلع إلى رصد تلك الحقبة الزمنية ويحاول إيجاد تفسير لما آلت إليه بكل حمولتها .

      بداية .. لابد من معرفة أن الصحوة ما هي إلا ظرف ثقافي قام على أنقاض الظرف الثقافي القومي والعروبي , وحاجةٌ نفسية في عمق الوجدان العربي الذي خاض التجربة القومية بكل أبعادها على مدى عقود , ووجد نفسه مضطراً إلى التخلي عن تجربة أثبتت فشلها , فكان التوجه – لا إرادياً – إلى خوض التجربة الدينية كحالة ثقافية بديلة , وفيما يشبه الإحلال الثقافي المحض المشابه لظرف الإحلال الثقافي العروبي والقومي الذي نشأ هو الآخر على ظروف الحقبة الاستعمارية , جاءت الفورة الدينية لتأخذ مكانها في وجدان الإنسان العربي المثقل بجراحات التجربة السابقة , والمتطلع إلى قضاياه بإلحاح مقلق , والباحث عن الخلاص في أي شيء يعده بمستقبل أفضل .

      كان ذلك الظرف الديني عامّاً عند كل الطوائف , فقد شهدت الطائفة الشيعية في المملكة حراكاً (دينياً / صحوياً ) تمثل في صحوة دينية لا تقلّ شراسة عن التيار الصحوي السلفي التقليدي , فنشأ التيار الشيرازي الذي كان أقرب في صورته الحركية إلى تيار السرورية , وقد حملت التجربة الشيعية في مدينة القطيف السعودية حالات مشابهة للنمو الصحوي في بقية أرجاء المجتمع السعودي . وفي كتاب ( الحراك الشيعي في المملكة ) لكلّ من بدر الإبراهيم ومحمد الصادق , يذكر المؤلفان أن ( محتسبين ) من الطائفة الشيعية كانوا في المجتمع القطيفي في الثمانينات والتسعينات يجوبون الأسواق بحثاً عن أية مخالفات أخلاقية أو سلوكية , وكانوا يضبطون الشباب في حالات التحرش بالفتيات , ومراقبة من يقومون برفع أصوات الأغاني . بالإضافة إلى انتشار المحاضرات الدينية والمنشورات الوعظية التي تحمل المجتمع على التمسك بقيم التدين . كما انتشرت أيضاً المخيمات الصيفية التي تعدّ الشباب تربوياً ودينياً , تماماً كما كانت الصحوة السلفية تفعل في أنشطتها !!

     هذا غير حالات انتشار المظاهر الدينية حتى في المجتمعات العربية المنفتحة المجاورة , والتي تمثلت في مظاهر الحجاب واللحية وارتياد المساجد وكثافة الحضور للمحاضرات عند المحدّثين الدينيين , حيث اشتهر عبد الحميد كشك في مصر , وأحمد القطان في الكويت , ثم بدأ الإقبال على أشرطتهما لاحقاً في المجتمع السعودي قبل أن يتولى قيادة الخطاب الديني دعاة محلّيون أفرزتهم المرحلة ليتحولوا إلى رموز للصحوة بعد ذلك , وأعطوا لها نكهتها المحلية الخاصة .

    إذاً .. فهي حالة وجدانية عامة ,  وشعور جمعي عام , في كل المجتمع العربي تقريباً . شعور ولّدته التجربة القومية السابقة , كحالة لجوء وجدانية إلى منطقة الدين والتدين . وكما لكل شيء نهاية .. فقد حملت الصحوة الدينية معها بذور نهايتها تلقائياً , كأي ظرف ثقافي مصيره النهاية , وبشكل سُنَني خاضع لمنطق التداول التاريخي الثابت , يبدأ بالولادة فالنشأة ثم الزوال , إلا أن ما يهمّنا في هذه الأسطر معرفته هو ما هو البديل المفترض , أو الظرف الثقافي الذي سيتولى قيادة المرحلة ؟

      في المملكة – كمثال لتناول تلك الحالة الدينية – فإن كل الدلائل تشير إلى ولادة تيار جديد يتشكّل من كل الطوائف المذهبية تقريباً ومن كل مناطق المملكة , ويتطلع إلى واقع أكثر تحرراً من قيم الصحوة عبر مفرداته الجديدة التي يطرحها بشكل يومي كالحقوق والديمقراطية والحريات والتسامح ونبذ الطائفية . إنه تيار جديد هضم قيم المرحلة الدينية السابقة واستوعب تناقضاتها وبدأ يتحرك خارج مسارها ؛ ليتلمس طريقه إلى واقع جديد أكثر إلحاحاً وتطلعاً للمستقبل المقلق . التيار الجديد من كل الطوائف يشترك في رؤية واحدة تواقة للمستقبل , وغير مرتهنة للمنظومة الراديكالية لكنها لا تحاربها بشكل واضح .

     يتضح المثال الأكثر وضوحاً على الحالة الثقافية الجديدة التي تحلّ بالشباب العربي عموماً والسعودي خصوصاً , ما حصل في ليبيا في 2011 حين أقدمت مجموعات كبيرة من الشباب الليبي على حرق مقرات ( أنصار الشريعة ) في بنغازي . كانت تلك رسالة زمنية ضخمة لبقايا التيارات الدينية والجهادية بأن حقبتكم انتهت وحلّ مكانها حقبة جديدة لا تتقبل ما يخرج عن ذائقة الجيل الجديد المشبع بتطلعات الحياة المدنيّة وآفاقها الوثّابة للمستقبل .

      بالعودة إلى المملكة , نجد أن هذا الجيل الجديد يتماهى مع الواقع الأممي التنافسي , فيطرح رؤاه بدرجة من الواقعية والإدراك أكثر بكثير من رموز وقيادات التيارات السابقة التي بقيت تعيش إلى الآن بأجسادها دون أرواحها المحبوسة في مجال إدراك أبعاد تلك المراحل الزمنية التي أنتجتها .

     التيار الشبابي الجديد يأخذ مساراً وسطاً بين التدين الطبيعي وبين القيم الليبرالية في أبعادها الإنسانية والاجتماعية التي نقلت وسائل الاتصال الحديثة صورتها فجذبت هذا الجيل عن أي شعارات أخرى ملّت الأذن العربية من تردادها .


      في المقال القادم .. سنتعرف على بعض تلك الملفات التي يناقشها الجيل الجديد من السعوديين , ويصرّحون – أكثر من أي وقت مضى – بتطلعاتهم المناقضة لقيم حقبة الصحوة وأدبياتها , فيما يشبه الثورة الثقافية التي بات يصوغها الآن جيل جديد يتشكل خارج رحم المنظومة الدينية والاجتماعية التقليدية .