استكمالاً لمحاولة
كشف خلل الفجوة الحاصلة اليوم بين المذاهب الدينية وبين مستجدات الواقع والعصر ,
نحاول أن نتلمس الجذور الأولية للثقافة حيث مصادر التغذية التي تشكل فضاء تحرك تلك
المذاهب والاجتهادات ومساراتها وتصميمها البنيوي من الداخل .
فلو أخذنا قضية المرأة في الخطاب الديني السعودي
على سبيل المثال , وكقضيةٍ تداخلت فيها عدة خيوط وتعقدت بين عدة اتجاهات اجتماعية
ودينية وسياسية , فإننا نجد أن المرأة في الوجدان الثقافي في الجزيرة العربية تُشكّل
منذ القدم منطقةً حساسة في عمق العقل الاجتماعي , وحتى أزمنة قريبة قبيل عهد التأسيس , فإننا نجد مثلاً أن عمليات
الغزو التي كانت تتم بين القبائل كانت تمارس فيها كل أنواع السلب والقتل والهتك
باستثناء الاقتراب من المرأة , بل إن القبيلة الغازية إن أرادت الغزو ولم تجد إلا
النساء فإنها تعود أدراجها ولا تقترب منهنّ ! وهذه طبعاً من الأخلاقيات التي كانت
منهجاً عند سكان الصحراء.. وكل ذلك يأتي ضمنياً في ما تعارف عليه المجتمع آنذاك من
تعظيم لتلك المنطقة الحساسة جداً في الوجدان الجمعي !
كل ذلك يعطينا
التصور الواقعي – فيما أعتقد – لسبب صياغة وضع المرأة في الخطاب الديني وفق ما
نلمسه اليوم من اجتهادات تتجاوز النص الديني لتلامس طبيعة الوجدان الاجتماعي وقد تنطلق
منه أو تدور حوله في طبيعة استحضار المرأة في ذلك الخطاب والتي تقوم على ذلك الإرث
الثقافي في طريقة التعاطي مع حضورها في الحياة العامة اليوم وصياغة وضعها وتشكيل
علاقتها بالحياة , حيث إن الممانعة والمحاذير الدينية التي يصوغها الخطاب الديني
بشكل عام في موضوع المرأة ليس إلا شكلاً من أشكال التغلب الثقافي للعادات
والتقاليد والتصورات والصورة النمطية للمرأة في الوجدان الاجتماعي عبر تاريخ طويل
, كل ذلك قد فرض حضوره الملحّ على تشكيل صياغة الصورة النمطية في ذلك الخطاب
الديني عن المرأة وقضاياها إلى تلك الدرجة التي غلبت فيها على النص الشرعي وغطت
على مقاصده وربما انحرفت به إلى السير في فلك تلك التصورات البيئية المحلية وليس
إلى أبعاده المقاصدية الحقيقية كما جاءت على حقيقتها وفلسفتها في النسخة الأولى من
إسلام ما قبل المذاهب !
الحقيقة أن كل ذلك
ليس مهماً إلا حينما حصل الانقلاب فجأة في حياة الناس اليوم , واستجدت وقائع عصرية
جديدة , بل ثورة عنيفة في الحياة وأسلوب العيش وأدوات التفكير وآلياته , كل ذلك
أحدث شرخاً هائلاً بين تلك الثقافة التي لم تُبنَ أساساً على دين وإنما على حضور
الملحّات البيئية , وبين واقع زمني مختلف وباذخ التغيير , فوقع الفرد الواحد في
عدة صراعات حادة من أجل الهوية ومن أجل الحياة !!
أنتج هذا الصراع فجوة
هائلة بين حاجيات جديدة وبين محددات ترسخت عبر عقود طويلة , مما أنتج انفصاماً عند
الفرد في توزيع خياراته بين حاجياته وبين تلك المحددات التي رسمت طريقة التعاطي مع
الفكرة , وحسمت ترسيخها عبر الزمن . حتى جاءت تلك اللحظة التي أثمرت فيها تلك
الأفكار تناقضاً مع الواقع الجديد ومتطلباته وحاجياته وظروفه الجديدة الأكثر
إلحاحاً .
إن مما نأخذه على
الفكرة الوهابية , وأيضاً على فكرة الصحوة الدينية في الثلاثين سنة الأخيرة ,
وكلاهما توصفان بأنهما تجديديتان لوضع ديني كان قائماً , أنهما لم تؤسسا لبناء دور
تجديدي حقيقي يسهم في التنوير الشامل في موضوع المرأة بشكل أوسع , وتخليص الدين من
عوالق التصورات البيئية الخاطئة حولها , بل ربما أسهمتا تاريخياً في تكريس تلك
التصورات وتعزيزها , مرهونتان ربما بحضور تلك التصورات المؤثرة على العقل الاجتماعي
ومخرجاته , أو انبهاراً بها وتعاطفاً مع فلسفتها المبالغة في الممانعة والتحذير
والشك والهوس إلى تلك الدرجة التي يُجعل من مجرد الصوت عورة ! ثم الانعكاسات
الاجتماعية الأخرى في مراحل تالية والتي لاحقت حتى أسماء الإناث وغلّفت الاسم
الأنثوي بغلافات لفظية مهمّتها إضفاء المواربة والتمويه عن الوصول إلى الاسم
الحقيقي مثل ( الأهل , العيال , أم العيال ) وجعلت من مجرد الأسماء مناطق لفظية
محذورة هي الأخرى , كل ذلك بصمت الخطاب الديني وبموافقته أحيانا دون أن يكون له أي
دور تصحيحي مسؤول في حالة الحساسية تلك , أو محاولة فاعلة في تخليص الديني من
البيئي , وبناء تصور سليم ربما يكون له أثر اليوم في رسم مخرج آمن لذلك التناقض
والفجوة التي حصلت والانعكاسات الثقافية السلبية المتراكمة على تلك التصورات !!
وكل ذلك في نهاية
المطاف هو محاولة لحثّ ذلك الخطاب على إعادة التصحيح الشامل , فالقدرة التي أبداها
الخطاب الديني بشكل عام في إعادة برمجة وتوجيه المجتمع نحو أفكار محددة يجعل من
الممكن القول بإعادة التصحيح وانتشال الثقافة لتقفز على تعقيدات العصر وتناقضاته
بالدخول في حالة تمحيص منهجية لحقيقة وضع المرأة في الإسلام كما جاء في خير القرون
منطلقين من فهم مقاصدي أشمل لا فهم بيئي يعيد إنتاج نفسه في كل مرة كي يغازل
العادات والتقاليد بدل أن يصححها ليرقيها إلى الفعالية التي تمتنع عن إنتاج
التناقضات الحادة . فالإسلام حينما جاء , فقد جاء شاملاً لكل نواحي الحياة
الاجتماعية ومصححاً للكثير من العادات , ولم يأت متجنباً لأي مناطق ملغومة , وفرض
بقوته وحجته تصحيح وضع المرأة في العصر الجاهلي من موؤدة منبوذة تُخرج من البيت في
وقت حيضها إلى عنصر فاعل في الحياة لدرجة أنها قادت الجيوش ومارست الفتيا والتعليم
, في مفارقة تعيد طرح سؤال عريض كهذا :
هل أغلب الاجتهادات
المذهبية تنطلق من مقاصد النص أم من أفهام مرهونة بالتأثير البيئي والاجتماعي
وربما السياسي أحياناً ؟ وعليه .. فهل ستكون ملزمة لنا في عصور لاحقة ؟؟