قبل عقود
كان الوعي المحلّي ( الديني والاجتماعي ) لا يُلقي بالاً لمسائل التكفير ولا حتى
الدعوة إلى القتل , وحتى في الصراع الذي اتسمت به حقبة الثمانينات بين الصحوة
والحداثة برغم التكفير المعلن بالصوت المرتفع , لم يكن المصطلح يأخذ أبعاداً في
الحذر والتوجس من النتائج , وكان للهدوء الفكري النسبي الذي اتسمت به حقبة
التسعينيات دور في إخماد جدلية التكفير , إلى أن انفجر المصطلح فعلياً مع تفجيرات
مايو 2003 في الرياض وباقي المدن , وبات على المنظومة الدينية عبئاً كبيراً في
إعادة الصياغة البرمجية للدلالة الاصطلاحية التي تفوح تلقائياً من مفهوم التكفير .
بات
الوعي الجديد ( وعي ما بعد أحداث مايو 2003 ) يتحرز كثيراً من اصطلاح التكفير ,
وباتت كلمة ( كافر ) لا تُطلق إلا بمحاذير كثيرة , حتى في مستويات الحكي الاجتماعي
الدارج , وظهرت الوصايا الدينية ( عالية المستوى ) تحذر من مفاهيم التكفير ,
وتذكّر بما يُطلق عليه ( الضوابط الشرعية ) في التكفير , وإسقاطه على الآخرين .
الآن كلّ
المشكلة – في تصوري – ليست في ( التكفير ) بحدّ ذاته , بل في الفضاء الثقافي الذي
يحيط بالمصطلح , وسأوضح الآن لماذا اتخذت مفاهيم التكفير بُعداً خطيراً على الأمن
الوطني والسلم الاجتماعي , في حين أنه يُفترض أن يكون مجرد تعبير عن الرأي ! فحين
أقول : فلان كافر . فهذا مجرد رأي , ولكلّ إنسان حرية التعبير عمّا يراه , فلماذا
يأخذ هذا الرأي كل تلك الخطورة ؟ وكيف نوفّق بين كونه ( حرية رأي ) وبين كونه
خطيراً على الأمن والسلم ؟
الخطورة
التي تحتضن مصطلح التكفير ليست إلا في النتائج المترتبة على العملية التكفيرية ,
وهي نتائج تطفح في التراث السلفي مثلاً , والذي يتعاطى مع ثنائية ( الكفر والإيمان
) بالحسم الواضح والمنتهي للدلالة الاصطلاحية المرسومة مسبقاً وفق أدبيات وتصورات
ذلك التراث , فتجد مثلاً الحسم الواضح في كثير من القضايا بعبارة ( يستتاب فإن تاب
وإلا قُتل ) , وتجد أيضاً في مؤلفات أئمة الدعوة الوهابية مثل هذه العبارة : (
مجرد التلفظ بـ "لا إله إلا الله" ليس عاصماً للدم والمال ... ) أي أنه
يُمكن أن يستباح قتل ( المسلم ) فضلاً عن غيره ؛ كونه لم يكن مسلماً وفق النظريات
المحددة ضمن تضاريس المشروع الوهابي تحديداً دون غيره .
من هنا
كانت المشكلة , أي أن الفضاء الثقافي المولّد للسياق الدلالي للمصطلح هو نفسه
المشكلة , وليس المصطلح الذي اتخذ مساراً دلالياً آخر في فضاءات أخرى , فالمعتزلة
مثلاً كفّر بعضهم بعضاً , وهم كما يقال ( إخوة المنهج ) ! ولكن تكفيرهم لبعضهم لم
يكن يترتب عليه قتالاً أو سفكاً للدماء , كما هي المُترتبات التلقائية للتكفير في
التراث السلفي .
هنا نصل
إلى حقائق يجب أن نفكك تداخلاتها , فالقول بكفر فلان أو إيمانه – في تصوري – أنها
في أصلها حرية رأي , ولكنها تكون كارثية إن كانت تستند على تراث يرسم النتائج
الحاسمة على الإسقاط الدلالي للمصطلح , أما في حالة خلوّ السياق من ذلك الحسم
بالنتيجة المفترضة , فباعتقادي أنه لن تكون هناك أي مشكلة .
بمعنى
أنه حينما لا تكون هناك أي عقوبة لمن تُسقط عليه دلالة الكُفر , وحين تحكم الدولة
بالقانون المحترم الذي يضبط علاقات الناس ببعضهم , فلن يكون هناك أي داعٍ للتخوف
من مفاهيم التكفير , وقد لا نحتاج حتى إلى ما يُسمى بالضوابط الشرعية في التكفير ؛
وذلك لأن تلك الضوابط أولاً : لن تنتهي , أي أنها ( باقية ) , وكذلك ( تتمدّد ) مع
الزمن , وتتنقل من سياق ثقافي إلى سياق ثقافي آخر عبر الزمن ! وثانياً : لأن اللغة
غير خاضعة لتلك الضوابط , فقد يكون الشخص كافراً بفكرة ما , أي معارضاً لها وغير
مؤمن بمنطقها , وبالتالي فهو بالمنطق اللغوي ( كافر ) بتلك الفكرة , فأي ضوابط
يمكن أن تضبط عملية تنقلاته بين ثنائية ( الكفر والإيمان ) التي هي في الأصل تعني
( الاعتراض والقناعة ) بكل بساطة ؟ وهذا يولّد المزيد من الاختلافات التي لا تنتهي
حول تشعبات المفاهيم المتوالدة , وثالثاً : لأن ذلك القانون المدني الذي أتحدث عنه
كفيل برسم كل الضوابط الممكنة والصارمة , والتي لا نحتاج معها إلى محدّدات (
مذهبية ) تُفصّل ما ينبغي أن يكون عليه البشر باختلافهم وتنوعهم وفق المزاج
الاجتهادي الذي مرّت قرون عديدة على منطقية إنتاجه .
ومع كل
ما سبق , نُبقي على الحق الخاص في اتخاذ الآراء والاجتهادات التي تحرّكها الروح
المذهبية التي لا يمكن استئصالها أو تغيير أدبياتها المتجذرة , والتي أرى أنه يمكن
احترامها وتقديرها , بشرط أن تكون هي الأخرى خاضعة للقانون الذي سيعلمها تلقائياً
كيف تحترم غيرها , في عملية تبادلية يمكن أن نصف مساراتها بأنها علاقات تنظّمها
الدولة المدنية الحديثة , وفيما عدا ذلك , فالخطورة البالغة ستكون فعلاً كامنة في
رحم المصطلح , حيث البرمجة الموجّهة لمفاهيمه , في حين أنه ينبغي أن يكون في أساسه
حرية رأي , يمكن مثلاً وصف من يُطلقه بالأنانية وانعدام الذوق في إخراج آخرين من دائرة الانتماء ولكن دون ذلك
التوجس من الدلالة الاصطلاحية في حالة تحقق الأمن الفعلي من تلك النتائج
والمترتبات , ومن هنا رأيت أن يكون الحديث عن السياق الثقافي الحاضن للمصطلح قبل
المصطلح نفسه الذي يستحيل أن يتفق الجميع على ضوابطه وحدود تصوراته .
مصادر
بعض المعلومات الواردة :
1- القول السديد شرح
كتاب التوحيد , عبدالرحمن بن ناصر السعدي
2- مجموع الفتاوى , ابن
تيمية
3- المعتزلة ثورة الفكر
الإسلامي الحر , الأب سهيل قاشا