الأحد، 16 نوفمبر 2014

التكفير .. وجهة نظر أخرى



قبل عقود كان الوعي المحلّي ( الديني والاجتماعي ) لا يُلقي بالاً لمسائل التكفير ولا حتى الدعوة إلى القتل , وحتى في الصراع الذي اتسمت به حقبة الثمانينات بين الصحوة والحداثة برغم التكفير المعلن بالصوت المرتفع , لم يكن المصطلح يأخذ أبعاداً في الحذر والتوجس من النتائج , وكان للهدوء الفكري النسبي الذي اتسمت به حقبة التسعينيات دور في إخماد جدلية التكفير , إلى أن انفجر المصطلح فعلياً مع تفجيرات مايو 2003 في الرياض وباقي المدن , وبات على المنظومة الدينية عبئاً كبيراً في إعادة الصياغة البرمجية للدلالة الاصطلاحية التي تفوح تلقائياً من مفهوم التكفير .

بات الوعي الجديد ( وعي ما بعد أحداث مايو 2003 ) يتحرز كثيراً من اصطلاح التكفير , وباتت كلمة ( كافر ) لا تُطلق إلا بمحاذير كثيرة , حتى في مستويات الحكي الاجتماعي الدارج , وظهرت الوصايا الدينية ( عالية المستوى ) تحذر من مفاهيم التكفير , وتذكّر بما يُطلق عليه ( الضوابط الشرعية ) في التكفير , وإسقاطه على الآخرين .

الآن كلّ المشكلة – في تصوري – ليست في ( التكفير ) بحدّ ذاته , بل في الفضاء الثقافي الذي يحيط بالمصطلح , وسأوضح الآن لماذا اتخذت مفاهيم التكفير بُعداً خطيراً على الأمن الوطني والسلم الاجتماعي , في حين أنه يُفترض أن يكون مجرد تعبير عن الرأي ! فحين أقول : فلان كافر . فهذا مجرد رأي , ولكلّ إنسان حرية التعبير عمّا يراه , فلماذا يأخذ هذا الرأي كل تلك الخطورة ؟ وكيف نوفّق بين كونه ( حرية رأي ) وبين كونه خطيراً على الأمن والسلم ؟

الخطورة التي تحتضن مصطلح التكفير ليست إلا في النتائج المترتبة على العملية التكفيرية , وهي نتائج تطفح في التراث السلفي مثلاً , والذي يتعاطى مع ثنائية ( الكفر والإيمان ) بالحسم الواضح والمنتهي للدلالة الاصطلاحية المرسومة مسبقاً وفق أدبيات وتصورات ذلك التراث , فتجد مثلاً الحسم الواضح في كثير من القضايا بعبارة ( يستتاب فإن تاب وإلا قُتل ) , وتجد أيضاً في مؤلفات أئمة الدعوة الوهابية مثل هذه العبارة : ( مجرد التلفظ بـ "لا إله إلا الله" ليس عاصماً للدم والمال ... ) أي أنه يُمكن أن يستباح قتل ( المسلم ) فضلاً عن غيره ؛ كونه لم يكن مسلماً وفق النظريات المحددة ضمن تضاريس المشروع الوهابي تحديداً دون غيره .

من هنا كانت المشكلة , أي أن الفضاء الثقافي المولّد للسياق الدلالي للمصطلح هو نفسه المشكلة , وليس المصطلح الذي اتخذ مساراً دلالياً آخر في فضاءات أخرى , فالمعتزلة مثلاً كفّر بعضهم بعضاً , وهم كما يقال ( إخوة المنهج ) ! ولكن تكفيرهم لبعضهم لم يكن يترتب عليه قتالاً أو سفكاً للدماء , كما هي المُترتبات التلقائية للتكفير في التراث السلفي .

هنا نصل إلى حقائق يجب أن نفكك تداخلاتها , فالقول بكفر فلان أو إيمانه – في تصوري – أنها في أصلها حرية رأي , ولكنها تكون كارثية إن كانت تستند على تراث يرسم النتائج الحاسمة على الإسقاط الدلالي للمصطلح , أما في حالة خلوّ السياق من ذلك الحسم بالنتيجة المفترضة , فباعتقادي أنه لن تكون هناك أي مشكلة .

بمعنى أنه حينما لا تكون هناك أي عقوبة لمن تُسقط عليه دلالة الكُفر , وحين تحكم الدولة بالقانون المحترم الذي يضبط علاقات الناس ببعضهم , فلن يكون هناك أي داعٍ للتخوف من مفاهيم التكفير , وقد لا نحتاج حتى إلى ما يُسمى بالضوابط الشرعية في التكفير ؛ وذلك لأن تلك الضوابط أولاً : لن تنتهي , أي أنها ( باقية ) , وكذلك ( تتمدّد ) مع الزمن , وتتنقل من سياق ثقافي إلى سياق ثقافي آخر عبر الزمن ! وثانياً : لأن اللغة غير خاضعة لتلك الضوابط , فقد يكون الشخص كافراً بفكرة ما , أي معارضاً لها وغير مؤمن بمنطقها , وبالتالي فهو بالمنطق اللغوي ( كافر ) بتلك الفكرة , فأي ضوابط يمكن أن تضبط عملية تنقلاته بين ثنائية ( الكفر والإيمان ) التي هي في الأصل تعني ( الاعتراض والقناعة ) بكل بساطة ؟ وهذا يولّد المزيد من الاختلافات التي لا تنتهي حول تشعبات المفاهيم المتوالدة , وثالثاً : لأن ذلك القانون المدني الذي أتحدث عنه كفيل برسم كل الضوابط الممكنة والصارمة , والتي لا نحتاج معها إلى محدّدات ( مذهبية ) تُفصّل ما ينبغي أن يكون عليه البشر باختلافهم وتنوعهم وفق المزاج الاجتهادي الذي مرّت قرون عديدة على منطقية إنتاجه .

ومع كل ما سبق , نُبقي على الحق الخاص في اتخاذ الآراء والاجتهادات التي تحرّكها الروح المذهبية التي لا يمكن استئصالها أو تغيير أدبياتها المتجذرة , والتي أرى أنه يمكن احترامها وتقديرها , بشرط أن تكون هي الأخرى خاضعة للقانون الذي سيعلمها تلقائياً كيف تحترم غيرها , في عملية تبادلية يمكن أن نصف مساراتها بأنها علاقات تنظّمها الدولة المدنية الحديثة , وفيما عدا ذلك , فالخطورة البالغة ستكون فعلاً كامنة في رحم المصطلح , حيث البرمجة الموجّهة لمفاهيمه , في حين أنه ينبغي أن يكون في أساسه حرية رأي , يمكن مثلاً وصف من يُطلقه بالأنانية وانعدام الذوق  في إخراج آخرين من دائرة الانتماء ولكن دون ذلك التوجس من الدلالة الاصطلاحية في حالة تحقق الأمن الفعلي من تلك النتائج والمترتبات , ومن هنا رأيت أن يكون الحديث عن السياق الثقافي الحاضن للمصطلح قبل المصطلح نفسه الذي يستحيل أن يتفق الجميع على ضوابطه وحدود تصوراته .




مصادر بعض المعلومات الواردة :

1-  القول السديد شرح كتاب التوحيد , عبدالرحمن بن ناصر السعدي
2-  مجموع الفتاوى , ابن تيمية

3-  المعتزلة ثورة الفكر الإسلامي الحر , الأب سهيل قاشا