الجمعة، 11 يوليو 2014

داعش ليست من الخوارج !!


أمام ما يجري من تداعيات للإرهاب في المنطقة يثير بعض الدعاة والمشايخ اصطلاح ( الخوارج ) محاولين إسقاطه على الجماعات المسلّحة من ( داعش , القاعدة ..إلخ ) , وهم في ذلك الإسقاط يحاولون ما يلي :
-        استعارة مفهوم الخروج الذي حصل في التاريخ من فرقة الخوارج التي ثارت على الإمام علي بن أبي طالب , حيث يحصل لهم بتلك الاستعارة المادة الضخمة التي تدين فرقة الخوارج , كما جاءت في مدوّنة أهل الحديث  بدءاً من أئمة الحديث وصولاً إلى ابن تيمية الذي أنتج الكثير من تلك الإدانة والشجب لتلك الفرقة .
-        كذلك تبرئة الذات التي تستند إلى نفس المرجعية التي تقوم عليها تلك الجماعات المسلّحة , وسنرى بعد قليل ماهي أوجه تلك الاشتراكات العقدية والفكرية التي تتشابه فيها تلك الجماعات , وبالأخص داعش , مع المُنتج العقدي السلفي , والذي أثبتت داعش أنها تستند عليه كمادة شرعية تقوم على محدداته الأيديولوجية والحركية .

وكما تفعل القاعدة أيضاً , فهي تصف داعش بالخوارج , وذلك لأن القاعدة تستخدم ذات اللعبة المستندة إلى ذات الأدوات التي تتكئ على تراثٍ يقدّم مادة ممتازة وجاهزة لإسقاط الاصطلاح . بينما في الحقيقة هناك بعض التزييف الحاصل , تاريخياً ومنطقياً , يجعل من العبث تسمية هؤلاء بالخوارج , ويكشف اللعبة اللفظية التي تستخدمها الأطراف السلفية اليوم في توجيه تلك الدلالة .

ما هي محددات الخوراج ؟
الخوارج الأوائل تقوم فكرتهم العقدية على جملة من المحددات التي كانت ثمرة الواقع السياسي في وقتهم , وتتلخص فيما يلي :
-        تكفير كلّ من ( عثمان , وعليّ , ومعاوية , وعائشة , وطلحة , والزبير ).
-        عدم اشتراط قرشية ( الخليفة ) .
-        تأمين ( أهل الذمة ) وعدم قتلهم أو انتزاع أي شيء منهم .
-        العمل بالآيات القرآنية دون الأحاديث , وهم بذلك لا يطبقون حدّ الرجم كونه لم يرد في القرآن .


والآن .. هل تنطبق على داعش أيّ من تلك المحددات السابقة ؟
-        أحد وجوه الاختلافات الواضحة بين ( الخوارج ) وبين داعش هي مسألة قرشية الحاكم أو الخليفة , فداعش تستند إلى رأي ( سنّي / سلفي ) يمتدّ إلى مدرسة أهل الحديث في مسألة الإمامة واشتراط القرشية في الخليفة , يقول ابن تيمية : ((وَأَمَّا كَوْنُ الْخِلَافَةِ فِي قُرَيْشٍ، فَلَمَّا كَانَ هَذَا مِنْ شَرْعِهِ وَدِينِهِ (3) ، كَانَتِ النُّصُوصُ بِذَلِكَ مَعْرُوفَةً مَنْقُولَةً مَأْثُورَةً يَذْكُرُهَا الصَّحَابَةُ. )) ( منهاج السنة : ج1 ص 521 ) .

-        ومن وجوه الاختلافات كذلك مسألة الموقف من أهل الذمة , فقد كان الخوارج الأوائل يتوخون الإحسان إلى أهل الذمة , في تلك القصة الشهيرة , حينما قابلوا مسلماً ونصرانياُ , فقالوا : احفظوا ذمّة نبيّكم , فأطلقوا سراح النصراني , وأوصوا به خيرا ً ( انظر : مصطفى الشكعة , إسلام بلا مذاهب ص122) . وهذا طبعاً من باب الالتزام بالنص , وإلا فهم قد قتلوا المسلمين وأطفالهم ونساءهم ! كغيرهم تماماُ . لكننا نجد الأمر مختلفاً عند داعش وكذلك القاعدة , والذين كانوا يأخذون كل كنيسة غصباً , هذا غير الهدم والتشريد . ولكن من أين جاءت داعش وغيرها بهذا التنظير ؟ لنرى ماذا يقول ابن تيمية في هذه المسألة :
(( ... أن الإمام لو هدم كل كنيسةٍ بأرض العنوة كأرض مصر والسواد  بالعراق، وبر الشام ونحو ذلك، مجتهدًا في ذلك، ومتبعًا في ذلك لمن يرى ذلك، لم يكن ذلك ظلماً منه؛ بل تجب طاعته في ذلك )) ( مجموع الفتاوى ج28 ص 634 )
وقوله أيضاً : ((بل إذا كان لهم كنيسة بأرض العنوة، كالعراق ومصر ونحو ذلك فبنى المسلمون مدينة عليها، فإن لهم أخذ تلك الكنيسة؛ لئلا تترك في مدائن المسلمين كنيسةٌ بعد عهد )) ( مجموع الفتاوى ج28 ص635 )
-        كما أن من أهمّ الاختلافات البنيوية ( المهمّة ) بين الخوارج الأوائل والدواعش المعاصرين مسألة اقتباس الأحكام من القرآن دون الحديث , وهذا ما كان عليه الخوارج الأوائل , حيث ينكرون حدّ الرجم كونه لم يرد في القرآن  . والحقيقة أن داعش تتبع نفس منهج ( أهل الحديث ) الذي تستند إليه السلفية اليوم . فنلاحظ أن الدواعش يعلنون بعض الأحكام العامة التي تسنتد حتى على أحاديث ضعيفة , فضلاً عن أن الثقافة التي تحرّك المنظومة ( الداعشية ) هي الثقافة الحديثية الممزوجة بالتراث العقدي المكتنز بالموقف السلبي من الآخر . وهو تراث سلفي بامتياز . فأين هؤلاء من الخوارج الأوائل ؟

ما سبق مجرد أمثلة فقط لبعض أوجه الاختلاف الجذري والعميق بين الخوارج الأوائل وبين داعش . وهو ليس تبرئة للخوارج الأوائل , أو محاولة لعرض تاريخهم على أنهم كانوا أكثر ( ليبرالية ) من السلفيين , بل هم أيضاً استخدموا ذات الطريقة في التكفير وسفك الدماء , ولكننا نتحدث عن أيقونات فارقة عند الجماعتين ؛ من أجل الردّ على تسطيح ما يجري من وصف لداعش بأنهم خوارج دون الاعتراف بالحقائق الموجعة .

أما في مسألة التكفير , فهي أوضح المسائل التي جاءت في الإنتاج السلفي , وسنلاحظ أيضاً أن ابن تيمية يقول في ( ذات السياق ) الجيوسياسي المكرر عبر التاريخ :
((هؤلاء القوم المسمون بالنصيرية هم وسائر أصناف القرامطة الباطنية أكفر من اليهود والنصارى )) (مجموع الفتاوى ج35 ص149) .

صحيح أن للتكفير ضوابطه وشروطه في المدوّنة السلفية , إلا أن تلك الشروط من السهولة إلباسها على أي واقع . بمعنى أن المعيّن يسهل تحديده بسهولة بمجرد أن يتم الإسقاط الدلالي على أمّ رأسه , فيتعيّن أنه المقصود بالردّة أو البدعة أو غير ذلك . يقول أيضاً ابن تيمية : (( وسائر الصحابة بدؤا (بدأوا) بجهاد المرتدين قبل جهاد الكفار من أهل الكتاب )) ( مجموع الفتاوى ج35 ص 159 ) . وهذا ما يفسّر لماذا بدأت داعش بقتال جبهة النصرة ( المرتدّة ) كأولوية سبقت قتالها للنظام السوري ( الكافر أو المشرك ) أساساً بحسب رؤيتهم . وهكذا يتم الإسقاط , ولكن الأدوات ليست من ابتكار الواقع , ولا من ابتكار الخوارج الأوائل , وإنما هي صناعة معروفة المصدر في عمق التراث .

من هنا نجد أن المرجعية التي تستند إليها داعش وأخواتها هي ذاتها المرجعية التي نطالب اليوم بأن يكون لديها الشجاعة الكافية كي تفتح ملفات موروثها العقدي والفقهي , في زمنٍ لم يعد هو ذلك الزمن الذي كان في وقت تدوينها . إننا بحاجة أكثر إلى تسمية الأشياء بمسمياتها الحقيقية , فلا يكفي رمي تهمة ( الخروج ) وإسقاط اصطلاح الخوارج على فئة ما , دونما البحث عن أصول وجذور المادّة الأساسية المحرّكة التي دفعت بهذه الفئة أو تلك إلى هذه السلوكيات التي – للأسف – لها ما يغذّيها في أعماق ذلك التراث . وهذا هو التجديد الذي نطلبه اليوم .. تجديد فهم الدين والنصوص في زمنٍ متغيّر ومتبدّل ومختلف , وإزالة العوالق الاجتهادية التي سببتها ظروف زمنية ماضية , كانت لها سياقاتها المختلفة .

وفي النهاية , فهذه ليست دعوة إلى اتهام السلفية اليوم بأنها هي المصدر الرئيس , وإنما هي دعوة إلى التصحيح , تصحيح التراث العقدي والفقهي , لا أقول ( الإسلامي ) , بل المذهبي , وتحديداً ( السلفي ) ؛ كونه المنتج لهذه المادة المحرّكة والجذابة للعناصر التي تقاطرت على المشروع الجهادي . إن الإٍسلام كدين لم يتدخل في تلك التفصيلات الاجتهادية التي ساقها علماء وفقهاء و(شيوخ الإسلام ) كما وُصفوا وحمّلوا من ألقاب أثقلت ذممهم العلمية , والإسلام كذلك لم يكن بحاجة إلى كل تلك المدوّنة العقدية الضخمة التي تقرر من يدخل في رحمة الله ومن يخرج منها بحسب التفصيل المذهبي الإضافي الاجتهادي الذي سبب كل هذه الفُرقة والشتات لأمة الإسلام .

    لن تنتهي مشكلة الاحتراب الطائفي والديني إلا إذا تمّ تحييد كل ذلك التراث ( المذهبي ) عند كل الأطراف , ثم الدخول بعقل وحكمة في حالة جديدة من العودة إلى مشتركات القرآن – وحده - كأيقونة مشتركة يمكن أن تشكّل قطب التقاء الجميع , وهذا يتطلب ميثاق شرف لكافة علماء الأمة – إن كانوا يقدّرون المخاطر ويعون حجمها – وحينها .. يمكن أن نصادق على أن من يخرج فعلاً عن هذا الميثاق فهو الذي يعتبر من ( الخوارج ) , وحينها نضع النقاط على الحروف , وتجد الأمة لها خارطة طريق توصلها لبرّ الأمان .


المراجع :
-        صحيح البخاري , كتاب الأحكام , باب (الأمراء من قريش)
-        الملل والنحل , للشهرستاني , ط 1413 هـ
-        مجموع الفتاوى , ابن تيمية , ط 1416هـ
-        منهاج السنّة , ابن تيمية , ط 1406هـ

-        إسلام بلا مذاهب , مصطفى الشكعة , ط 2007