في فيلم (السفارة في العمارة)
لعادل إمام , كان هناك مشهد يلخص بمهارة حالة الوجدان العربي المنغمس في الشهوات ,
وفي ذات الوقت يهتم بقضايا الأمة الكبرى , تلك اللقطة التي تضطجع فيها العاهرة إلى
جوار بطل الفلم (شريف خيري) المولع بالنساء , وحين تكتشف تلك العاهرة وجود السفارة
الإسرائيلية إلى جوار مضجعهما , تصرخ بأعلى أصوات اللعن والاستنكار على هذا
(المضاجِع) العميل الذي رضي بأن يسكن إلى جوار سفارة العدو !
وتقريباً كل أحداث ذلك الفيلم
تمظهرت في تمجيد تلك الروح (السكرى) بالاستنكار والشجب والإدانة , برغم الانغماس
في الملذات , كحالة من حالات إثبات أن الروح الوطنية والقومية لا تزال مشتعلة عند
كل إنسان مهما كان ( مدمّراً ) من الداخل . الأهم أنه ( يكره إسرائيل ) !
لدينا في المملكة حالة
مشابهة جداً لهذا الانحراف في الأولويات والقضايا . ففي ظرفنا الثقافي ( زمن
الصحوة ) والذي جاء على أنقاض الظرف القومي والعروبي الذي انطلق منه كاتب فيلم
السفارة في العمارة , سترى لدينا أنواع المزايدات الدينية حتى من أكثر فئات
المجتمع انحطاطاً وشذوذاً !!
سترى مثلاً شاذاً جنسياً
يؤيد أعضاء هيئة الأمر بالمعروف ويلعن الليبراليين الذين – كما يصفهم – يريدون (
تغريب ) المجتمع عن دينه . ومواقع التواصل الاجتماعي تعجّ بهذه الأمثلة .. فستجد
مثلاً حساباً لعاهرة تعلن عن رغبتها في إقامة العلاقات الجنسية بمقابل مادي , وفي
ذات الوقت تغرّد بالآيات القرآنية والأحاديث ! في مشهد لا يمكن وصفه بغير الانفصام
الحاد في أعماق الضمير , إلا أن هذا الانفصام أصبح طبيعياً ومستساغاً عند الكثيرين
, كحالة من حالات إثبات اشتعال ( جذوة التدين ) برغم الانغماس في الملذات !
تقريباً أستطيع القول إن
أيديولوجية فيلم السفارة في العمارة تنطبق على حالة التدين السعودي المشغول بإعلان
( الإدانة والشجب والاستنكار ) والدخول في جمهرة النغمة العامة , مع بعض المزايدات
الوعظية , إلا أن المحتويين يختلفان بحسب الظرف الثقافي لكل مرحلة , بين مرحلة
القومية والعروبية التي أنتجت نص فيلم السفارة في العمارة , وبين مرحلة زمن الصحوة
التي أنتجت تلك الأمثلة النفاقية في المجتمع السعودي . إلا أن التشابه الحادّ يكمن
في أن السياقين
يعززان إشغال الفرد بـ ( إراحة الضمير ) المذوّب تلقائياً في ضمير المجتمع على
حساب بناء الذات وتنشئة السجايا الإنسانية الصحيحة كأولويات منطقية يجب على الفرد الاهتمام
بها قبل أن يهتم بقضايا أكبر منه .
هكذا سارت رحلة التزييف
في وعي الإنسان العربي , وجعلته في حالة تغييب دائم عن ذاته وعن كينونته , بل لقد
تحولت العملية برمّتها إلى نوع من التبرير اللازم للفرد جرّاء ما يقترفه من آثام ,
بحيث يكون مرتاحاً أغلب الوقت لما يقوم به , ما دام أنه داخل ضمن تركيبة الظاهرة
الصوتية المرتفعة , ولم يقم بشق عصا الطاعة , ولا يهم بعد ذلك – في تصوره – كل ما
يقوم به , فكما صوّر الفيلم الإشادة بعاهرة تكره إسرائيل , ستظهر عاهرة أخرى في
بلد مجاور تدينها الظاهر وكرهها للتغريب والاختلاط وقيادة المرأة للسيارة !
صورة أخرى تتجلى في تفسير
حالة ( النفاق ) المريع التي تتلبس الكثيرين , فطالما أنه يحب ( الصالحين ) ويكره
( الليبراليين ) , فإنه لا يزال يحمل ( بذرة الخير ) كما يقال , حتى وإن كان شاذاً
جنسياً أو امرأة ساقطة ! وهكذا ترتسم الصورة في أذهان الكثيرين عن نمطية الحياة
بحيث ينشغل الفرد في ملذاته , ثم يجد العذر لما يقترفه بكونه لا يزال ضمن تلك
المنظومة , وفي النهاية : ( الله غفور رحيم ) . ثم لا
يمنع بعد ذلك من أن يسافر إلى الخارج بحثاً عن الملذات في وقتٍ يحارب فيه كل ما
زُرع في ذهنه أنه من ( مظاهر التغريب ) في الداخل . وهذه الحالة لا يفسرها سوى أن
هذا الجنوح – غير المنطقي – في نظر العقلاء , إنما هو نوع من التبرير الذاتي
والمريح لحالة الدمار النفسي التي يعيشها
ذلك الفرد .
هذه الحالة النفاقية
الفظيعة لا يمكن اعتبارها حالات فردية بسيطة . بل يمكن القول إنها ظاهرة اجتماعية
بالغة الخطورة في كواليس مجتمعنا . فمن
يشاهد بعض الحسابات في مواقع التواصل الاجتماعي ويرى عدد المتابعين الذي يصل في
بعضها إلى مئة ألف أو يزيدون , ويرى عددها الذي لا يحصى , وكل واحد منها يحمل عدد
متابعين ضخم جداً , سوف يصدم من كمية الارتهان الجمعي لتلك الحالة من الانغماس في
الوحل , في ذات الوقت الذي ستشاهد فيه أن هؤلاء أنفسهم في مواضع حوارية على تلك
المواقع يؤيدون منظومة التشدد الديني ويدعمون أيقوناته الميدانية كهيئة الأمر
بالمعروف ويدينون أي عملية تحول إصلاحية يرون فيها مظاهر تغريب اجتماعي .
فهي ظاهرة عامة سببها
التزييف الفظيع في الوعي نتيجة الوعظ العشوائي الذي ظلّ زمناً يتخذ صفة الحشد
والتعبئة دون تقديم أي برامج موازية في تعزيز الدوافع الذاتية وتحفيز الذات على
تقديم شيء إيجابي مفيد . تلك الفوضوية الوعظية مسؤولة بشكل مباشر عن هذا الفشل في
النهوض بالناشئة , ومسؤولة أيضاً عن حالة تغييب الذات عن المبادرة الحرّة المستقلة
المعتدّة بإمكاناتها الكامنة , بسبب الطريقة التربوية التي زرعت في الأذهان أن
الفرد هو مجرد (استجابة) لظروف محيطة , وبالتالي فهو معرّض لتلك الظروف , دون
التركيز على عملية تعزيز ذلك الفرد بقيم الإبداع والإيجابية وبث روح المبادرة ؛
ليقدم شيئاً يلهيه تلقائياً عن تلك الاستجابة التي يُخشى منها . فنشأت أجيال ضعيفة
نفسياً , ومهزوزة , وغير واثقة , وغير قادرة على الإبداع والسمو والإنتاج والبناء
والمنافسة الأممية المحمومة .
ومن هنا نشأت تلك السلوكيات التي تجنح للنفاق
الاجتماعي للاحتماء بالظاهرة الصوتية كغطاء للملذات الخاصة .