ربما من المؤسف أن تكون بيئة فكرية كالتي في المملكة , كثيفة التحولات
والجدل دون أن يكون هناك جهد تدويني وطني يليق بهذه الحالة الضخمة والتي تتغذى
يومياً بالجدل والاستقطابات منذ عقود !
إن جزءاً من الضعف التدويني في حالتنا السعودية يعود بلا شك إلى سياسة
التعتيم الإعلامي الذي يكتنف أحداثنا ومجرياتنا الكبرى , كأحداث الحرم مثلاً في
عام 1400هـ لو أخذناها كمثال . إلا أنه برمي المسؤولية دائماً على المنظومة
الرقابية فإن ذلك من شأنه إخراج المهتمين المعنيين بطريقة فيها تزييف كبير للوعي
والمسؤوليات , فالمثقف عليه مسؤولية كبيرة في ذلك التدوين . إلا أن المشكلة الكبرى
, والتي اكتشفتها مؤخراً , ليست فقط في إحجام المعنيين والباحثين عن تدوين تلك
الأحداث وتناولها , وإنما هناك أزمة حقيقية في فهمها أولاً , وفهم ظروفها
وتداعياتها وحيثياتها التفصيلية التي تفسر الكثير من ظروف أدائها !
حين نأتي إلى مثال حادثة الحرم , نرى الكثير من دعاة التنوير والإصلاح
الفكري يربطون بشكل متعسف بين حادثة الحرم وبين الصحوة , وأن للاثنتين علاقة عضوية
ببعضهما أو أن إحداهما نتيجة للأخرى . وهذا منافٍ للحقيقة التاريخية!
لم تكن مجموعة جهيمان العتيبي التي اقتحمت الحرم مطلع القرن الخامس
عشر الهجري إلا نتاجاً للجماعة السلفية المحتسبة التي نشأت في المدينة بهدف العودة
إلى السلفية ( الصافية ) من وجهة نظرهم ,
وكانت تستهدف الحد من الانتشار الذي تحقق لتيار الصحوة الذي بدأ في النشاط من
منتصف الستينيات والذي يعتبر تمثيلاً لوجود الإخوان المسلمين ولاحقاً السرورين , الجماعتين
الأنشط دينياً في المملكة والتي انبثقت إحداهما عن الأخرى كما هو معروف . فكان
تركيز الجماعة السلفية المحتسبة – في الأساس – النيل من رمزية شيوخ الصحوة عبر
تأكيدها على ضعفهم الشرعي وانحراف مشروعهم عن الاشتغال بالعقيدة إلى السياسة .
مستشهدين بمقولة شهيرة للشيخ الألباني والذي يعتبر الأب الروحي للجماعة : من
السياسة ترك السياسة !
حصلت بعض الأحداث غير المهمة في موضوعنا هذا , إلا أنه وبعد عدة
انشقاقات في صفوف الجماعة السلفية المحتسبة, برز تيار أكثر عنفاً بقيادة جهيمان
العتيبي الذي كان يمتلك كاريزما استطاعت جذب العشرات من الرفاق داخل الجماعة . ثم
بعد انقطاع مجموعة جهيمان عن بقية الجماعة وهيامهم في الصحارى استعداداً لعمليتهم
الموعودة , حصل بعض التشظي في الجماعة , إلا أنها بقيت كأفراد محافظين على البنية
الأيديولوجية تجاه الموقف الثابت من تيار الصحوة ورموزها . بعض تلك المجموعات
ستتحول فيما بعد إلى تيار مناقض تماماً لمجموعة جهيمان , وهو التيار الذي عرف بعد
ذلك بالجامية !!
حصلت حادثة الحرم وانتهت , إلا أن ما بدأ للتوّ هو أنه خلا الجوّ
لتيار الصحوة , وربما حصل أن لجأ السياسي إليها كونها أقدر على ضبط الكوادر
الشبابية المنتمية إليها . إلا أنه وبعد زوال سنوات العسل بين الصحوة والسياسي , وخصوصا مع أحداث حرب الخليج , برزت فجأة الجماعة السلفية المحتسبة ولكن في ثوب
جديد سمي آنذاك بالجامية أو المداخلة .
لم يكن يتأتى للتيار الجامي أن يتشكل لولا تلك البنية الموجودة
والمتمثلة في بقايا عناصر وأدبيات الجماعة السلفية المحتسبة التي هي بدورها كانت
ردّة فعل للوجود الحركي الإسلامي المتمثل في تيار الصحوة . ورغم أنها مفارقة عجيبة
أن تنشطر الجماعة السلفية إلى شطرين متباينين بدرجة صارخة ( مجموعة جهيمان , وتيار
الجامية ) إلا أن الأكثر عجباً هو الكثير من المداولات الفكرية التي لا تفرق –تاريخيا-
بين مكونات الطيف الديني في السعودية وترى أنه كتلة واحدة , بينما الواقع الذي
يحدث فعليا في أعماق تلك المنظومة الدينية يشي بالاختلافات العميقة والجوهرية التي
من المهم فهمها أثناء تناول الواقع الديني والفكري في الحالة السعودية . فالدلالات
المتعددة لكل من ( الوهابية , والصحوة , والسلفية ) ينبغي أن تؤخذ كل واحدة منها
في مجالها الأيديولوجي المعتبر والمنفصل تماما عن الأخرى , بمعنى أنه من المستحيل
أن يتم الجمع بين الوهابية مثلاً والصحوة في سياق واحد بينما كل واحدة لها مجال
أيديولوجي تتبعه وتهتم به , وربما حصل بعض التصادم غير المعلن , برغم الحاضنة
المرجعية ( السلفية ) لكل من المكونين السابقين !
وإذا كان علينا القول إننا نعيش حقاً في ظل تحولات عميقة في المشهد
السعودي , فمن الجدير بالقول إنه علينا فهم ظروفنا التاريخية بشكل أكثر عمقاً
وتحريّاً للدقة التاريخية والواقعية من أجل الوصول لحقيقة بنيوية يمكن أن تؤصل
منطقها الداعم لفهم واقع التحول الذي يجري بعنف .
المراجع :
- زمن الصحوة , ستيفان
لاكروا
- حتى لا يعود جهيمان ,
توماس هيغهامر
- مقابلة مع ناصر الحزيمي على اليوتيوب , أحد رفاق
جهيمان .