تزخر اللغة العامة هذه الأيام بمصطلح جديد أطلقه تيار الصحوة ضد خصومه
ومنتقديه , مفسّراً لجملة من الأقوال والأفعال المضادة بأنها ( فاشية ) , ولم
أتبيّن حتى هذه اللحظة هل منشأ هذا الاصطلاح
محلّي أم إقليمي , خصوصاً وأنه تزامن مع ما حصل في مصر بعد تاريخ 3 / 7 /
2013 من تنحية لحزب الإخوان عن الحكم , ولكن بصرف النظر عن منطقية الإسقاطات
الدلالية في الحالة السعودية , فإن الأهم هو أن هذا المصطلح أتى في سياق النقاش
السعودي الداخلي محمّلاً بعدّة إشارات , منها :
-
المصطلح يربط بين الخصوم وبين ( الفاشية ) وهي نظام ديكتاتوري يقوم
على راديكالية سلطوية تفرض شكلها ( القومي أو الوطني ) , وحين تستخدم الصحوة
تحديداً هذا الاصطلاح , فإن عناصرها يتناسون أنهم هم أنفسهم قد مارسوا تلك الفاشية
– بحذافيرها – في يوم من الأيام ضد خصومهم , الفرق هو أن المادّة الصحوية دينية
استخدمت السلطة الاجتماعية والاتكاء على الدعم السياسي في فترة من الزمن , بل إن
خصومهم اليوم ومنتقديهم لم ينالوا ربع ما ناله الخطاب الصحوي من تمدد وتغلغل سمح
له بممارسة أنواع من الإقصاء والنفي بلغت حدّ استعداء السلطات , وتضامن عناصر هذا
التيار في كثير من المفاصل من أجل الإيقاع بالخصوم , والأمثلة كثيرة جداً , وتمتلئ
بها ذاكرتنا المحلية .
تطالعنا الأبحاث التي تناولت دراسة مبادئ الفاشية , كما هي في إيطاليا
مثلاً , بأنها قد جاءت على هذا النحو :
أ – النظام الفاشي فوق الجميع , ويحق له أن يتدخل في حياة الفرد
الخاصة .
ب – وظيفة الفرد هي خدمة المجموع العام .
ج – عدم الاعتراف بالحريّات الفردية الخاصة .
د – التمدد على حساب كينونة الآخرين وحقهم في الوجود .
هـ - تعتقد الفاشية بأنه لا يمكن أن يكون هناك سلام دائم بين دول
العالم .
والآن – وفق هذه المبادئ – ألم تكن الصحوة قد طبّقتها لعقود طويلة مع
شركائهم في الوطن ؟
في الحقيقة أنني لا أتكلم الآن باسم تيار على حساب تيار آخر , وأعتقد
أنني أحاول أن أمارس التحليل المحايد قدر المستطاع , ولا أنكر أن هناك سلوك مضاد
تجاه الصحوة جعلها تشعر بشيء من هذا الشعور , ولكن في المقابل , ووفق حقائق
تاريخية عشنا تفاصيلها , ولا تزال ذاكرتنا تحملها , فإن هناك ممارسة طويلة الأمد
لأنواع من الفاشية الصحوية تجاه خصومهم , تطابقت تطابقاً مذهلاً مع مبادئ الفاشية
الأصلية , وأعتقد أن ما يجري في مجتمعنا من مخاض إنما هو من قبيل سنّة التدافع المتداولة
, وعلى الصحوة أن تراجع نفسها بهدوء وتأمل , وتعيد تقييم خطابها تجاه الشركاء في
الوطن .
- إشارة أخرى مهمّة ,
وهي أن مصطلح ( الليبروفاشية ) يكشف أن منظومة الصحوة تشعر في أعماقها الآن – وفي
هذه اللحظة الزمنية تحديداً – بشعور المظلومية , وذلك أن شيئاً من الممارسة (
الفاشية ) تمارس ضدها كما تقول وتعتقد , وهذا الشعور لم يكن ليشعر به عناصر تيار
الصحوة قبل عقود , حينما كان المجتمع والثقافة واللغة العامة أدوات حقيقية ترتهن
لأدبيات الصحوة , وبالتالي فإن ربط الخطاب الناقد للصحوة بمفاهيم ( الفاشية )
سيعطي إشارة كاشفة عن أن الصحوة في شعورها بالمظلومية قد بدأت تشعر بالأفول أيضاً
, فبرزت الحاجة إلى مواجهة الخطاب المضاد بتأويله سلوكاً فاشياً ؛ وذلك لاكتساب
التعاطف الاجتماعي الذي بدأ هو الآخر في التقلّص والتراجع عن الدعم وتشكيل حاضنة
اجتماعية كما كان في السابق , لهذا فمن المهم جداً التنبّه للمصطلحات وما تفرزه من
دلالات عميقة تكشف استراتيجية التفكير اللحظي .
هذا التعليل الذي يقدمه الخطاب الصحوي في مواجهته للخطاب الناقد له غير
كاف – مع مرور الزمن – لإيقاف تحلحل المبادئ والأدبيات الصحوية التي ظلّت زمناً
طويلاً تسيطر على الفضاء العام بلا منافس , هناك سنن تاريخية لابد أن تأخذ مجراها
الطبيعي , تماماً كما كانت الصحوة عبارة عن ( ظرف زمني ) جاء عقب ظرف القومية
العربية , في سنّة تاريخية هي الأخرى , كظرف جاء محلّ ظرف , فإن انزياح ظرف الصحوة
مع قادم الأيام , ولمصلحة ظرف ثقافي أكثر ملاءمة للمرحلة وتعقيداتها , وأكثر قدرة
على طرح الحلول العملية والمناسبة لتطلعات جيل جديد , كل ذلك سيكون واقعاً يأتي في
سياق التداول الطبيعي للأفكار والأيديولوجيات , وهذه سنن كونية ليست خاصة بالدول والحضارات
, بل كل شيء تقريباً يشبه الشهاب الذي يسطع لبرهة ثم ينطفئ , ولن يكون هناك أي شيء
( باقٍ ويتمدد ) إطلاقاً , بل كما قال قس بن ساعدة : ( وكل ما هو آتٍ آت ) .
لستُ هنا لأطرح أمنيات , أو لأكتب بلُغةٍ شعرية عن التطلعات , ولستُ
معنياً بزوال الأفكار أو تبديلها , بل أدعو إلى تبنّي مفاهيم المراجعة التاريخية
الحرّة والشجاعة , والدخول في المرحلة بوعي المرحلة , لا بوعي المحددات التي كانت
هي نفسها سبباً في المشكلات , فالخطاب الذي يمتلك القدرة على المراجعة والإصلاح
الداخلي للّغة والأفكار المطروحة سيكون أقدر على الاستمرار من أي خطاب يتكلّس عند
الأفكار الأولية , ولا يأخذ في حسبانه طبيعة المجتمعات التي تتغير وتتبدل مع كل
دورة زمنية في مستوى الإدراك الثقافي والسلوكي .