السبت، 27 ديسمبر 2014

الليبروفاشية .. ما وراء الدلالة


تزخر اللغة العامة هذه الأيام بمصطلح جديد أطلقه تيار الصحوة ضد خصومه ومنتقديه , مفسّراً لجملة من الأقوال والأفعال المضادة بأنها ( فاشية ) , ولم أتبيّن حتى هذه اللحظة هل منشأ هذا الاصطلاح  محلّي أم إقليمي , خصوصاً وأنه تزامن مع ما حصل في مصر بعد تاريخ 3 / 7 / 2013 من تنحية لحزب الإخوان عن الحكم , ولكن بصرف النظر عن منطقية الإسقاطات الدلالية في الحالة السعودية , فإن الأهم هو أن هذا المصطلح أتى في سياق النقاش السعودي الداخلي محمّلاً بعدّة إشارات , منها :

-       المصطلح يربط بين الخصوم وبين ( الفاشية ) وهي نظام ديكتاتوري يقوم على راديكالية سلطوية تفرض شكلها ( القومي أو الوطني ) , وحين تستخدم الصحوة تحديداً هذا الاصطلاح , فإن عناصرها يتناسون أنهم هم أنفسهم قد مارسوا تلك الفاشية – بحذافيرها – في يوم من الأيام ضد خصومهم , الفرق هو أن المادّة الصحوية دينية استخدمت السلطة الاجتماعية والاتكاء على الدعم السياسي في فترة من الزمن , بل إن خصومهم اليوم ومنتقديهم لم ينالوا ربع ما ناله الخطاب الصحوي من تمدد وتغلغل سمح له بممارسة أنواع من الإقصاء والنفي بلغت حدّ استعداء السلطات , وتضامن عناصر هذا التيار في كثير من المفاصل من أجل الإيقاع بالخصوم , والأمثلة كثيرة جداً , وتمتلئ بها ذاكرتنا المحلية .

تطالعنا الأبحاث التي تناولت دراسة مبادئ الفاشية , كما هي في إيطاليا مثلاً , بأنها قد جاءت على هذا النحو :

أ – النظام الفاشي فوق الجميع , ويحق له أن يتدخل في حياة الفرد الخاصة .
ب – وظيفة الفرد هي خدمة المجموع العام .
ج – عدم الاعتراف بالحريّات الفردية الخاصة .
د – التمدد على حساب كينونة الآخرين وحقهم في الوجود .
هـ - تعتقد الفاشية بأنه لا يمكن أن يكون هناك سلام دائم بين دول العالم .

والآن – وفق هذه المبادئ – ألم تكن الصحوة قد طبّقتها لعقود طويلة مع شركائهم في الوطن ؟

في الحقيقة أنني لا أتكلم الآن باسم تيار على حساب تيار آخر , وأعتقد أنني أحاول أن أمارس التحليل المحايد قدر المستطاع , ولا أنكر أن هناك سلوك مضاد تجاه الصحوة جعلها تشعر بشيء من هذا الشعور , ولكن في المقابل , ووفق حقائق تاريخية عشنا تفاصيلها , ولا تزال ذاكرتنا تحملها , فإن هناك ممارسة طويلة الأمد لأنواع من الفاشية الصحوية تجاه خصومهم , تطابقت تطابقاً مذهلاً مع مبادئ الفاشية الأصلية , وأعتقد أن ما يجري في مجتمعنا من مخاض إنما هو من قبيل سنّة التدافع المتداولة , وعلى الصحوة أن تراجع نفسها بهدوء وتأمل , وتعيد تقييم خطابها تجاه الشركاء في الوطن .

-       إشارة أخرى مهمّة , وهي أن مصطلح ( الليبروفاشية ) يكشف أن منظومة الصحوة تشعر في أعماقها الآن – وفي هذه اللحظة الزمنية تحديداً – بشعور المظلومية , وذلك أن شيئاً من الممارسة ( الفاشية ) تمارس ضدها كما تقول وتعتقد , وهذا الشعور لم يكن ليشعر به عناصر تيار الصحوة قبل عقود , حينما كان المجتمع والثقافة واللغة العامة أدوات حقيقية ترتهن لأدبيات الصحوة , وبالتالي فإن ربط الخطاب الناقد للصحوة بمفاهيم ( الفاشية ) سيعطي إشارة كاشفة عن أن الصحوة في شعورها بالمظلومية قد بدأت تشعر بالأفول أيضاً , فبرزت الحاجة إلى مواجهة الخطاب المضاد بتأويله سلوكاً فاشياً ؛ وذلك لاكتساب التعاطف الاجتماعي الذي بدأ هو الآخر في التقلّص والتراجع عن الدعم وتشكيل حاضنة اجتماعية كما كان في السابق , لهذا فمن المهم جداً التنبّه للمصطلحات وما تفرزه من دلالات عميقة تكشف استراتيجية التفكير اللحظي .

هذا التعليل الذي يقدمه الخطاب الصحوي في مواجهته للخطاب الناقد له غير كاف – مع مرور الزمن – لإيقاف تحلحل المبادئ والأدبيات الصحوية التي ظلّت زمناً طويلاً تسيطر على الفضاء العام بلا منافس , هناك سنن تاريخية لابد أن تأخذ مجراها الطبيعي , تماماً كما كانت الصحوة عبارة عن ( ظرف زمني ) جاء عقب ظرف القومية العربية , في سنّة تاريخية هي الأخرى , كظرف جاء محلّ ظرف , فإن انزياح ظرف الصحوة مع قادم الأيام , ولمصلحة ظرف ثقافي أكثر ملاءمة للمرحلة وتعقيداتها , وأكثر قدرة على طرح الحلول العملية والمناسبة لتطلعات جيل جديد , كل ذلك سيكون واقعاً يأتي في سياق التداول الطبيعي للأفكار والأيديولوجيات , وهذه سنن كونية ليست خاصة بالدول والحضارات , بل كل شيء تقريباً يشبه الشهاب الذي يسطع لبرهة ثم ينطفئ , ولن يكون هناك أي شيء ( باقٍ ويتمدد ) إطلاقاً , بل كما قال قس بن ساعدة : ( وكل ما هو آتٍ آت ) .


لستُ هنا لأطرح أمنيات , أو لأكتب بلُغةٍ شعرية عن التطلعات , ولستُ معنياً بزوال الأفكار أو تبديلها , بل أدعو إلى تبنّي مفاهيم المراجعة التاريخية الحرّة والشجاعة , والدخول في المرحلة بوعي المرحلة , لا بوعي المحددات التي كانت هي نفسها سبباً في المشكلات , فالخطاب الذي يمتلك القدرة على المراجعة والإصلاح الداخلي للّغة والأفكار المطروحة سيكون أقدر على الاستمرار من أي خطاب يتكلّس عند الأفكار الأولية , ولا يأخذ في حسبانه طبيعة المجتمعات التي تتغير وتتبدل مع كل دورة زمنية في مستوى الإدراك الثقافي والسلوكي .

الأحد، 16 نوفمبر 2014

التكفير .. وجهة نظر أخرى



قبل عقود كان الوعي المحلّي ( الديني والاجتماعي ) لا يُلقي بالاً لمسائل التكفير ولا حتى الدعوة إلى القتل , وحتى في الصراع الذي اتسمت به حقبة الثمانينات بين الصحوة والحداثة برغم التكفير المعلن بالصوت المرتفع , لم يكن المصطلح يأخذ أبعاداً في الحذر والتوجس من النتائج , وكان للهدوء الفكري النسبي الذي اتسمت به حقبة التسعينيات دور في إخماد جدلية التكفير , إلى أن انفجر المصطلح فعلياً مع تفجيرات مايو 2003 في الرياض وباقي المدن , وبات على المنظومة الدينية عبئاً كبيراً في إعادة الصياغة البرمجية للدلالة الاصطلاحية التي تفوح تلقائياً من مفهوم التكفير .

بات الوعي الجديد ( وعي ما بعد أحداث مايو 2003 ) يتحرز كثيراً من اصطلاح التكفير , وباتت كلمة ( كافر ) لا تُطلق إلا بمحاذير كثيرة , حتى في مستويات الحكي الاجتماعي الدارج , وظهرت الوصايا الدينية ( عالية المستوى ) تحذر من مفاهيم التكفير , وتذكّر بما يُطلق عليه ( الضوابط الشرعية ) في التكفير , وإسقاطه على الآخرين .

الآن كلّ المشكلة – في تصوري – ليست في ( التكفير ) بحدّ ذاته , بل في الفضاء الثقافي الذي يحيط بالمصطلح , وسأوضح الآن لماذا اتخذت مفاهيم التكفير بُعداً خطيراً على الأمن الوطني والسلم الاجتماعي , في حين أنه يُفترض أن يكون مجرد تعبير عن الرأي ! فحين أقول : فلان كافر . فهذا مجرد رأي , ولكلّ إنسان حرية التعبير عمّا يراه , فلماذا يأخذ هذا الرأي كل تلك الخطورة ؟ وكيف نوفّق بين كونه ( حرية رأي ) وبين كونه خطيراً على الأمن والسلم ؟

الخطورة التي تحتضن مصطلح التكفير ليست إلا في النتائج المترتبة على العملية التكفيرية , وهي نتائج تطفح في التراث السلفي مثلاً , والذي يتعاطى مع ثنائية ( الكفر والإيمان ) بالحسم الواضح والمنتهي للدلالة الاصطلاحية المرسومة مسبقاً وفق أدبيات وتصورات ذلك التراث , فتجد مثلاً الحسم الواضح في كثير من القضايا بعبارة ( يستتاب فإن تاب وإلا قُتل ) , وتجد أيضاً في مؤلفات أئمة الدعوة الوهابية مثل هذه العبارة : ( مجرد التلفظ بـ "لا إله إلا الله" ليس عاصماً للدم والمال ... ) أي أنه يُمكن أن يستباح قتل ( المسلم ) فضلاً عن غيره ؛ كونه لم يكن مسلماً وفق النظريات المحددة ضمن تضاريس المشروع الوهابي تحديداً دون غيره .

من هنا كانت المشكلة , أي أن الفضاء الثقافي المولّد للسياق الدلالي للمصطلح هو نفسه المشكلة , وليس المصطلح الذي اتخذ مساراً دلالياً آخر في فضاءات أخرى , فالمعتزلة مثلاً كفّر بعضهم بعضاً , وهم كما يقال ( إخوة المنهج ) ! ولكن تكفيرهم لبعضهم لم يكن يترتب عليه قتالاً أو سفكاً للدماء , كما هي المُترتبات التلقائية للتكفير في التراث السلفي .

هنا نصل إلى حقائق يجب أن نفكك تداخلاتها , فالقول بكفر فلان أو إيمانه – في تصوري – أنها في أصلها حرية رأي , ولكنها تكون كارثية إن كانت تستند على تراث يرسم النتائج الحاسمة على الإسقاط الدلالي للمصطلح , أما في حالة خلوّ السياق من ذلك الحسم بالنتيجة المفترضة , فباعتقادي أنه لن تكون هناك أي مشكلة .

بمعنى أنه حينما لا تكون هناك أي عقوبة لمن تُسقط عليه دلالة الكُفر , وحين تحكم الدولة بالقانون المحترم الذي يضبط علاقات الناس ببعضهم , فلن يكون هناك أي داعٍ للتخوف من مفاهيم التكفير , وقد لا نحتاج حتى إلى ما يُسمى بالضوابط الشرعية في التكفير ؛ وذلك لأن تلك الضوابط أولاً : لن تنتهي , أي أنها ( باقية ) , وكذلك ( تتمدّد ) مع الزمن , وتتنقل من سياق ثقافي إلى سياق ثقافي آخر عبر الزمن ! وثانياً : لأن اللغة غير خاضعة لتلك الضوابط , فقد يكون الشخص كافراً بفكرة ما , أي معارضاً لها وغير مؤمن بمنطقها , وبالتالي فهو بالمنطق اللغوي ( كافر ) بتلك الفكرة , فأي ضوابط يمكن أن تضبط عملية تنقلاته بين ثنائية ( الكفر والإيمان ) التي هي في الأصل تعني ( الاعتراض والقناعة ) بكل بساطة ؟ وهذا يولّد المزيد من الاختلافات التي لا تنتهي حول تشعبات المفاهيم المتوالدة , وثالثاً : لأن ذلك القانون المدني الذي أتحدث عنه كفيل برسم كل الضوابط الممكنة والصارمة , والتي لا نحتاج معها إلى محدّدات ( مذهبية ) تُفصّل ما ينبغي أن يكون عليه البشر باختلافهم وتنوعهم وفق المزاج الاجتهادي الذي مرّت قرون عديدة على منطقية إنتاجه .

ومع كل ما سبق , نُبقي على الحق الخاص في اتخاذ الآراء والاجتهادات التي تحرّكها الروح المذهبية التي لا يمكن استئصالها أو تغيير أدبياتها المتجذرة , والتي أرى أنه يمكن احترامها وتقديرها , بشرط أن تكون هي الأخرى خاضعة للقانون الذي سيعلمها تلقائياً كيف تحترم غيرها , في عملية تبادلية يمكن أن نصف مساراتها بأنها علاقات تنظّمها الدولة المدنية الحديثة , وفيما عدا ذلك , فالخطورة البالغة ستكون فعلاً كامنة في رحم المصطلح , حيث البرمجة الموجّهة لمفاهيمه , في حين أنه ينبغي أن يكون في أساسه حرية رأي , يمكن مثلاً وصف من يُطلقه بالأنانية وانعدام الذوق  في إخراج آخرين من دائرة الانتماء ولكن دون ذلك التوجس من الدلالة الاصطلاحية في حالة تحقق الأمن الفعلي من تلك النتائج والمترتبات , ومن هنا رأيت أن يكون الحديث عن السياق الثقافي الحاضن للمصطلح قبل المصطلح نفسه الذي يستحيل أن يتفق الجميع على ضوابطه وحدود تصوراته .




مصادر بعض المعلومات الواردة :

1-  القول السديد شرح كتاب التوحيد , عبدالرحمن بن ناصر السعدي
2-  مجموع الفتاوى , ابن تيمية

3-  المعتزلة ثورة الفكر الإسلامي الحر , الأب سهيل قاشا

الجمعة، 11 يوليو 2014

داعش ليست من الخوارج !!


أمام ما يجري من تداعيات للإرهاب في المنطقة يثير بعض الدعاة والمشايخ اصطلاح ( الخوارج ) محاولين إسقاطه على الجماعات المسلّحة من ( داعش , القاعدة ..إلخ ) , وهم في ذلك الإسقاط يحاولون ما يلي :
-        استعارة مفهوم الخروج الذي حصل في التاريخ من فرقة الخوارج التي ثارت على الإمام علي بن أبي طالب , حيث يحصل لهم بتلك الاستعارة المادة الضخمة التي تدين فرقة الخوارج , كما جاءت في مدوّنة أهل الحديث  بدءاً من أئمة الحديث وصولاً إلى ابن تيمية الذي أنتج الكثير من تلك الإدانة والشجب لتلك الفرقة .
-        كذلك تبرئة الذات التي تستند إلى نفس المرجعية التي تقوم عليها تلك الجماعات المسلّحة , وسنرى بعد قليل ماهي أوجه تلك الاشتراكات العقدية والفكرية التي تتشابه فيها تلك الجماعات , وبالأخص داعش , مع المُنتج العقدي السلفي , والذي أثبتت داعش أنها تستند عليه كمادة شرعية تقوم على محدداته الأيديولوجية والحركية .

وكما تفعل القاعدة أيضاً , فهي تصف داعش بالخوارج , وذلك لأن القاعدة تستخدم ذات اللعبة المستندة إلى ذات الأدوات التي تتكئ على تراثٍ يقدّم مادة ممتازة وجاهزة لإسقاط الاصطلاح . بينما في الحقيقة هناك بعض التزييف الحاصل , تاريخياً ومنطقياً , يجعل من العبث تسمية هؤلاء بالخوارج , ويكشف اللعبة اللفظية التي تستخدمها الأطراف السلفية اليوم في توجيه تلك الدلالة .

ما هي محددات الخوراج ؟
الخوارج الأوائل تقوم فكرتهم العقدية على جملة من المحددات التي كانت ثمرة الواقع السياسي في وقتهم , وتتلخص فيما يلي :
-        تكفير كلّ من ( عثمان , وعليّ , ومعاوية , وعائشة , وطلحة , والزبير ).
-        عدم اشتراط قرشية ( الخليفة ) .
-        تأمين ( أهل الذمة ) وعدم قتلهم أو انتزاع أي شيء منهم .
-        العمل بالآيات القرآنية دون الأحاديث , وهم بذلك لا يطبقون حدّ الرجم كونه لم يرد في القرآن .


والآن .. هل تنطبق على داعش أيّ من تلك المحددات السابقة ؟
-        أحد وجوه الاختلافات الواضحة بين ( الخوارج ) وبين داعش هي مسألة قرشية الحاكم أو الخليفة , فداعش تستند إلى رأي ( سنّي / سلفي ) يمتدّ إلى مدرسة أهل الحديث في مسألة الإمامة واشتراط القرشية في الخليفة , يقول ابن تيمية : ((وَأَمَّا كَوْنُ الْخِلَافَةِ فِي قُرَيْشٍ، فَلَمَّا كَانَ هَذَا مِنْ شَرْعِهِ وَدِينِهِ (3) ، كَانَتِ النُّصُوصُ بِذَلِكَ مَعْرُوفَةً مَنْقُولَةً مَأْثُورَةً يَذْكُرُهَا الصَّحَابَةُ. )) ( منهاج السنة : ج1 ص 521 ) .

-        ومن وجوه الاختلافات كذلك مسألة الموقف من أهل الذمة , فقد كان الخوارج الأوائل يتوخون الإحسان إلى أهل الذمة , في تلك القصة الشهيرة , حينما قابلوا مسلماً ونصرانياُ , فقالوا : احفظوا ذمّة نبيّكم , فأطلقوا سراح النصراني , وأوصوا به خيرا ً ( انظر : مصطفى الشكعة , إسلام بلا مذاهب ص122) . وهذا طبعاً من باب الالتزام بالنص , وإلا فهم قد قتلوا المسلمين وأطفالهم ونساءهم ! كغيرهم تماماُ . لكننا نجد الأمر مختلفاً عند داعش وكذلك القاعدة , والذين كانوا يأخذون كل كنيسة غصباً , هذا غير الهدم والتشريد . ولكن من أين جاءت داعش وغيرها بهذا التنظير ؟ لنرى ماذا يقول ابن تيمية في هذه المسألة :
(( ... أن الإمام لو هدم كل كنيسةٍ بأرض العنوة كأرض مصر والسواد  بالعراق، وبر الشام ونحو ذلك، مجتهدًا في ذلك، ومتبعًا في ذلك لمن يرى ذلك، لم يكن ذلك ظلماً منه؛ بل تجب طاعته في ذلك )) ( مجموع الفتاوى ج28 ص 634 )
وقوله أيضاً : ((بل إذا كان لهم كنيسة بأرض العنوة، كالعراق ومصر ونحو ذلك فبنى المسلمون مدينة عليها، فإن لهم أخذ تلك الكنيسة؛ لئلا تترك في مدائن المسلمين كنيسةٌ بعد عهد )) ( مجموع الفتاوى ج28 ص635 )
-        كما أن من أهمّ الاختلافات البنيوية ( المهمّة ) بين الخوارج الأوائل والدواعش المعاصرين مسألة اقتباس الأحكام من القرآن دون الحديث , وهذا ما كان عليه الخوارج الأوائل , حيث ينكرون حدّ الرجم كونه لم يرد في القرآن  . والحقيقة أن داعش تتبع نفس منهج ( أهل الحديث ) الذي تستند إليه السلفية اليوم . فنلاحظ أن الدواعش يعلنون بعض الأحكام العامة التي تسنتد حتى على أحاديث ضعيفة , فضلاً عن أن الثقافة التي تحرّك المنظومة ( الداعشية ) هي الثقافة الحديثية الممزوجة بالتراث العقدي المكتنز بالموقف السلبي من الآخر . وهو تراث سلفي بامتياز . فأين هؤلاء من الخوارج الأوائل ؟

ما سبق مجرد أمثلة فقط لبعض أوجه الاختلاف الجذري والعميق بين الخوارج الأوائل وبين داعش . وهو ليس تبرئة للخوارج الأوائل , أو محاولة لعرض تاريخهم على أنهم كانوا أكثر ( ليبرالية ) من السلفيين , بل هم أيضاً استخدموا ذات الطريقة في التكفير وسفك الدماء , ولكننا نتحدث عن أيقونات فارقة عند الجماعتين ؛ من أجل الردّ على تسطيح ما يجري من وصف لداعش بأنهم خوارج دون الاعتراف بالحقائق الموجعة .

أما في مسألة التكفير , فهي أوضح المسائل التي جاءت في الإنتاج السلفي , وسنلاحظ أيضاً أن ابن تيمية يقول في ( ذات السياق ) الجيوسياسي المكرر عبر التاريخ :
((هؤلاء القوم المسمون بالنصيرية هم وسائر أصناف القرامطة الباطنية أكفر من اليهود والنصارى )) (مجموع الفتاوى ج35 ص149) .

صحيح أن للتكفير ضوابطه وشروطه في المدوّنة السلفية , إلا أن تلك الشروط من السهولة إلباسها على أي واقع . بمعنى أن المعيّن يسهل تحديده بسهولة بمجرد أن يتم الإسقاط الدلالي على أمّ رأسه , فيتعيّن أنه المقصود بالردّة أو البدعة أو غير ذلك . يقول أيضاً ابن تيمية : (( وسائر الصحابة بدؤا (بدأوا) بجهاد المرتدين قبل جهاد الكفار من أهل الكتاب )) ( مجموع الفتاوى ج35 ص 159 ) . وهذا ما يفسّر لماذا بدأت داعش بقتال جبهة النصرة ( المرتدّة ) كأولوية سبقت قتالها للنظام السوري ( الكافر أو المشرك ) أساساً بحسب رؤيتهم . وهكذا يتم الإسقاط , ولكن الأدوات ليست من ابتكار الواقع , ولا من ابتكار الخوارج الأوائل , وإنما هي صناعة معروفة المصدر في عمق التراث .

من هنا نجد أن المرجعية التي تستند إليها داعش وأخواتها هي ذاتها المرجعية التي نطالب اليوم بأن يكون لديها الشجاعة الكافية كي تفتح ملفات موروثها العقدي والفقهي , في زمنٍ لم يعد هو ذلك الزمن الذي كان في وقت تدوينها . إننا بحاجة أكثر إلى تسمية الأشياء بمسمياتها الحقيقية , فلا يكفي رمي تهمة ( الخروج ) وإسقاط اصطلاح الخوارج على فئة ما , دونما البحث عن أصول وجذور المادّة الأساسية المحرّكة التي دفعت بهذه الفئة أو تلك إلى هذه السلوكيات التي – للأسف – لها ما يغذّيها في أعماق ذلك التراث . وهذا هو التجديد الذي نطلبه اليوم .. تجديد فهم الدين والنصوص في زمنٍ متغيّر ومتبدّل ومختلف , وإزالة العوالق الاجتهادية التي سببتها ظروف زمنية ماضية , كانت لها سياقاتها المختلفة .

وفي النهاية , فهذه ليست دعوة إلى اتهام السلفية اليوم بأنها هي المصدر الرئيس , وإنما هي دعوة إلى التصحيح , تصحيح التراث العقدي والفقهي , لا أقول ( الإسلامي ) , بل المذهبي , وتحديداً ( السلفي ) ؛ كونه المنتج لهذه المادة المحرّكة والجذابة للعناصر التي تقاطرت على المشروع الجهادي . إن الإٍسلام كدين لم يتدخل في تلك التفصيلات الاجتهادية التي ساقها علماء وفقهاء و(شيوخ الإسلام ) كما وُصفوا وحمّلوا من ألقاب أثقلت ذممهم العلمية , والإسلام كذلك لم يكن بحاجة إلى كل تلك المدوّنة العقدية الضخمة التي تقرر من يدخل في رحمة الله ومن يخرج منها بحسب التفصيل المذهبي الإضافي الاجتهادي الذي سبب كل هذه الفُرقة والشتات لأمة الإسلام .

    لن تنتهي مشكلة الاحتراب الطائفي والديني إلا إذا تمّ تحييد كل ذلك التراث ( المذهبي ) عند كل الأطراف , ثم الدخول بعقل وحكمة في حالة جديدة من العودة إلى مشتركات القرآن – وحده - كأيقونة مشتركة يمكن أن تشكّل قطب التقاء الجميع , وهذا يتطلب ميثاق شرف لكافة علماء الأمة – إن كانوا يقدّرون المخاطر ويعون حجمها – وحينها .. يمكن أن نصادق على أن من يخرج فعلاً عن هذا الميثاق فهو الذي يعتبر من ( الخوارج ) , وحينها نضع النقاط على الحروف , وتجد الأمة لها خارطة طريق توصلها لبرّ الأمان .


المراجع :
-        صحيح البخاري , كتاب الأحكام , باب (الأمراء من قريش)
-        الملل والنحل , للشهرستاني , ط 1413 هـ
-        مجموع الفتاوى , ابن تيمية , ط 1416هـ
-        منهاج السنّة , ابن تيمية , ط 1406هـ

-        إسلام بلا مذاهب , مصطفى الشكعة , ط 2007

السبت، 22 فبراير 2014

سبعٌ عِجافٌ



    هي سبعٌ أكلت زهرة شباب يوسف , ذلك السجين في القرن العشرين , وليس في تلك القصة القرآنية التي اقتبس الكاتب سعد آل سالم أيقوناتها الدلالية ؛ ليُسقط درامية تلك القصة القرآنية على قصة أخرى مشابهة لها في الروح والمضمون . ذلك الاستحضار القرآني الرائع لقصة واقعية عايشها بنفسه قد أنتج إسقاطاتٍ وجدانية جديرة بالقراءة الضوئية الكاشفة لآفاقها . إنها سرديات يومية , أو يوميات على هيئة سرد . ليست رواية كي نقرأها وفق النسق التقليدي للرواية , برغم حمولتها القصصية الدرامية التي أتقنت العرض السردي في ترتيب الأحداث وكثافة التفاعل بين شخصيات القصة , كما أبدعت في تصوير لحظات ( سينمائية ) حين بدأت القصة بالصورة الأخيرة , وهي إعطاء يوسف المذكرات الخاصة به للصحفي , ثم بدأ ذلك الصحفي في عرض تلك المذكرات , فكانت تلك السرديات التي شكّلت هيكلية القصة , لتأتي اللقطة الأخيرة في القصة لتذكّر باللقطة الأولى حين سمح يوسف للصحفي بنشر تلك المذكرات .

    هذا البناء السردي ( السينمائي ) يشابه بناء قصة يوسف القرآنية , حيث بدأت تلك القصة بحديث يوسف عليه السلام لأبيه ما شاهده في المنام من سجود الشمس والقمر والكواكب له , ثم بدأت الحكاية القرآنية في التسلسل عبر منعطفاتها السردية  إلى أن وصلت إلى منتهاها بذلك التذكير باللقطة الأولى ( ذلك تأويل رؤياي من قبل ) لتكتمل صورة إسدال الستار على مشهد القصة بشكل تام ومحكم .

    ما يجب أن نقرأه في قصة (سبع عجاف) هو أكبر من تلك الفنيات التي يمكن قراءتها بأشكال مختلفة . إن (سبع عجاف) رسالة وطنية تحمل ما هو أبعد من فنّ سردي أو قصصي يتم عبر تقنية تقليدية قد تفقد مفعولها فور الانتهاء من قراءتها . إن ( سبع عجاف ) تحمل قيماً أكثر عمقاً , إنها تحمل رسائل التسامح , والتعايش , والشراكة الوطنية , وبناء الثقة بين أبناء مجتمع واحد يجمعهم مصير مشترك . بل إنها رسالة تحاول أن تستفزّ ذلك الشعور المخبوء تحت رماد القلق الجمعي من المصير الواحد .

     (سبع عجاف) كشفت شيئاً من حكاية مرّت في ذاكرتنا الوطنية بشيء من الغموض والشائعات والحكايات المجهولة . لم يتعمد المؤلف أن يؤرشف الحكاية تاريخيا , لكن سردياته العفوية جاءت كما لو أنها شرحت جزءاً من تلك الحكاية . الأهم هو أنه رسم صورة وجدانية صافية للمشاعر التي ستحلّ ضيفاً على أي سجين فور أن يحلّ هو ضيفاً بأي سجن . ذلك السجن  الضيق مكاناً بالنسبة للجسد , والأوسع فضاءً بالنسبة للروح , حين تحلق في عوالمها اللامتناهية , فتستحضر كلّ ما خطّته السنوات , ليُقرأ في تلك العزلة مع الذات , فتكتسب الروح السجينة حرّيةً أخرى بمعراجها في عوالم روحية شفّافة , فتبدع حريتها وفق منطق جديد يكتسبه السجين بدوافع مستوحاة تلقائيا من الجدران المغلقة والصامتة التي تنظر إليه وهي تحثّ إرادته على كسر صلابتها المعنوية , أو النفاذ من بين دلالتها الوجودية.

     القارئ لـ (سبع عجاف) ربما سيأخذ على المؤلف لغته المباشرة والواضحة حين كتب قصته , وربما سينظر من خلال نظارة تبحث عن الأدوات التقليدية لكتابة أي عمل قصصي . يجب القول إن (سبع عجاف) هي رغبة مباشرة من المؤلف صاحب التجربة في أن تصل الرسالة بإسقاطاتها المليئة بما يمكن أن يقال إلى أكبر شريحة ممكن لها قراءتها . فقد أراد أن يصل إلى الجيل الجديد مباشرة ؛ ليوصل له رسالة ومضمون تلك السرديات بشكل سلس وشفاف , ومباشر أيضاً .

    إن قيماً كالتسامح , والتعايش , والمحبة , والسلام , والتفاهم , والعمل على المشتركات الوطنية والدينية والبيئية والثقافية , لَهي قيمٌ يجب على التعليم العام أن يعزّزها في أرواح الناشئة , وحملة الأقلام أن يُبرزوها , وأصحاب المنابر أن يبثّوها , والآباء أن يزرعوها , والأمّة كلها أن تؤكدها كميثاق شرف يرسم خارطة طريق يبني مستقبلها وقوتها .

    قيمٌ تصنع المستقبل وتحدد المصير وترسم لنا وطنا حاضناً وجميلاً جديرةٌ بأن تصل بمباشرة وسلاسة ووضوح وسرعة وتأكيد . تلك القيم هي التي حملها رحم تلك الحكاية اليوسفية التي رقصت قيمها العالية بين دفّتين.

      بعد ( سبع عجاف ) , نريد أعواماً مديدة , فيها يغاث الناس وفيها يعصرون . هكذا يقولها لسان حال الشاب يوسف , ويقولها معه جيل جديد يصرخ بصوت مسموع : نريد وطناً أجمل !

                                                                    

الخميس، 13 فبراير 2014

فتح ملفات الصحوة (3-3)


-       هل سقطت الصحوة فعلاً ؟
-       وكيف سقطت ؟
-       ولماذا سقطت ؟
      بُعيد أحداث حرب الخليج وأجواء التوتر المصاحب لتلك اللحظة السياسية الفاصلة , وبعد أن انقضى شهر العسل بين الصحوة والسياسي الذي أعطى لها الضوء الأخضر طيلة عقد كامل عقب أحداث الحرم المكي مطلع عام 1400هـ , بعد كل ذلك وخلال ثلاث سنوات من التعبئة الصحوية والحشد لمطالبات تمثلت في (خطاب المطالب ) والذي أعقبته فوراً – لعدم وضوحه – (مذكرة النصيحة ) ليشكل هذان البيانان فيما بعد الحدّ الذي غيّر الاستراتيجية السياسية في التعامل مع الصحوة , لكنه لم يُتخذ بعد أي إجراء على مستوى الحياة المدنية , إذْ يتضح أن الدعم والمهادنة للحالة الدينية لا تزال استراتيجية استمرت حتى بعد ( إعلان الحرب ) الذي اتخذه خطاب المطالب ومذكرة النصيحة في سياق واقع دولة ملكية تتخذ أسلوب المركزية الإدارية من مبدأ الأبوة السياسية للجميع . بُعيد كل ذلك , قامت احتجاجات في منطقة القصيم على إثر اعتقال الشيخ سلمان العودة , إلا أن الملفت أن تلك الاحتجاجات لم تتعدّ الدوائر الصحوية التقليدية في تلك المنطقة !


     كانت الصحوة تعوّل كثيراً على تفاعل الناس مع القضية , وتنتظر أولئك المئات الذين كانوا يملأون المساجد لحضور محاضرات الشيخ العودة والحوالي الذي اعتقل هو الآخر . إلا أن نتائج التعبئة والحشد لم تتعدّ المناصرين القريبين . هذه النتيجة كانت متوّجة لجهود عقد كامل انقضى والصحوة هي اللاعب الوحيد على الساحة , والأحداث المفصلية الكبرى تمرّ من تحت إدارتها الفكرية لصياغات ردّة الفعل . فكانت مخيّبة لآمال القائمين على تلك التعبئة خصوصا في المدن الكبرى . هذه الإشارة بالذات هي التي يمكن أن تؤشر لبداية انكسار موجة الصحوة كظرف ثقافي بدأ في الأفول , بعد ثلاث سنوات من إعلان جورج بوش الأب النظام العالمي الجديد !


      انكسرت الموجة , لكنها بقيت كظرف ثقافي مستمر . وحين جاءت أحداث 11/ سبتمبر , تسبب الحدث في صدمة وارتباك حتى للصحوة نفسها .. كانت قد مرّت ثلاث سنوات على إطلاق سراح رموز الصحوة الذين شجبوا الحادثة أول الأمر , ثم دعوا إلى ما يشبه المبادرة عبر ( بيان التسامح ) الذي جاء أول الموقعين عليه سلمان العودة وسفر الحوالي . ولكن وللأسف تم الانسحاب من هذا البيان تحت ضغوط جماهيرية , حيث حمل البيان دعوة إلى التسامح مع الغرب لم يستسغه الجمهور الصحوي ذلك الوقت .


     هنا مؤشر جديد أيضاً أسهم في الدفع بعملية الانكسار إلى آخر مراحلها , حيث لم تضغط تلك الرموز على الجماهير بإصرار للدخول في الظرف الفكري الجديد الذي فرضته ظروف عالمية , بل رضخت هي لتلك الجماهير مفسحةً الطريق للسقوط التاريخي الطبيعي في مثل هذا التصلّب الأيديولوجي غير الواعي بحركة الأحداث المتلاحقة وتداعياتها . كل ذلك قد حمل الأقلام المناوئة للصحوة للانطلاق , محمّلةً بولادة حقبة ثقافية جديدة . وحين جاء الإرهاب , كان المشهد يعكس صورة النفسية العامة للمجتمع الذي بدأ في إدانة التشدد بأنواعه , ومعلناً موضة جديدة من ادّعاءات الوسطية , حتى عند أبطال تلك التعبئة القديمة , مما أعطى المرحلة صيغة إعلانية جماعية لاستقبال عهد جديد من قيم أكثر انفتاحية ومرونة . في تلك الأثناء أومضت لحظة ليبرالية خاطفة في مشهد الحياة الفكرية في المملكة , لم تصمد هي الأخرى بسبب أنها جنّدت نفسها للانتقام التاريخي من الصحوة التي كانت تُقصي من حولها . حتى وقعت فيما وقعت فيه الحالة الصحوية من إقصاء ملحوظ ورفض للتسامح , دون أن يكون لها أي خطاب محدد الملامح , أو مشروع وطني أو فكري كالمشروع الصحوي ( المتوجه إلى المجتمع) . لم تكن المخرجات الليبرالية أكثر من ( مظلوميات ) احتجاجية ضد ذلك الخصم التاريخي , وضد حقبة زمنية عاش ذلك الخصم بطولتها بالطول والعرض .


    اللحظة الليبرالية هي الأخرى تبخرت بتبخر الأحلام العامة المواكبة لحالة إحباطات متناسلة من عدة قضايا , على سبيل المثال :
-       مخرجات الحوار الوطني .
-       مخرجات الانتخابات البلدية .
-       بطء الإجراءات الإصلاحية .
-       حالة التضخم الاقتصادي , والتقلص السلبي للطبقة المتوسطة .

     تجدر الإشارة إلى أن تلك اللحظة الليبرالية , وإن انتهت كظاهرة صوتية وإعلامية , إلا أنها باقية كظرف ثقافي أعمق . قام هو الآخر على الظرف السابق . إلا أنه نتيجة طبيعية لمرحلة زمنية جديدة , نبتت قيمها الفكرية كنتيجة تلقائية للظرف الثقافي الجديد , وليس كنتيجة جهود نضالية لتيار بعينه .


       حين جاء الربيع العربي , لم تظهر في سماء المملكة أي حالة ثقافية يمكن أن تتصدر المشهد الفكري وتقوده في هذه المرحلة . جاء الربيع العربي والمملكة تشهد ما يُشبه الفراغ , بصرف النظر عن الوجود القائم للجميع , ولكن بالحديث عن حالة ثقافية صاخبة ومؤثرة فلا يمكن الجزم بوجود تلك الحالة التي كان يمكن لها أن تتفاعل بمثل ذلك التفاعل الصحوي إبّان حرب الخليج , أو التفاعل الناصري مع بيانات عبدالناصر النارية , كحالات لتلك الظروف الثقافية الدالّة على وجود فعلي لذلك الظرف المتعاطي مع المتغيرات الإقليمية حوله . بل يمكن اعتبار مرور الربيع العربي بهدوء وسلام على المملكة دلالة على وجود فراغ ثقافي , حيث ترجّل الجميع عن المسرح بعد جدل تبادلي مُنهك . إلا أن ذلك المسرح – في تصوري- لم يلبث أن اعتلاه جيل جديد , في مشهد جديد , وبحلّة زمنية جديدة , وبوعي جديد وملحوظ . شباب قدّموا (فكرياً ) ما لم تقدمه الصحوة خلال عقود . أنشأوا برلمانهم الافتراضي الخاص بهم , وأقاموا أحلامهم بعيداً عن مؤطرات الأيديولوجيا الضيقة . يعايشون همومهم اليومية , ويتعايشون مع اختلافاتهم المتعددة . نقاشاتهم الصاخبة مسموعة إلى درجة أن وسائل إعلام كثيرة أصبحت تعتمد في أخبارها على إنتاجهم .. والملفت أنه حتى الأجهزة الحكومية أصبحت تتابع وتتفاعل مع هذه اللحظة الصاخبة .

هل هذه اللحظة خاطفة كاللحظة الليبرالية ؟ أم مستمرّة كالحقبة الصحوية ؟
أعتقد أننا في بداياتها , ونظراً لديناميتها السريعة , لا يمكن التنبؤ بما يمكن أن تؤديه ثقافياً . وقد نحتاج إلى سنوات لتقييم منجزاتها , وكذلك فتح ملفاتها هي الأخرى .

هذه اللحظة التي يمكن أن نسمّيها الآن ( الظرف التويتري ) !

تمّت


مراجع ومصادر الأجزاء الثلاثة :

-       الحراك الشيعي في المملكة – بدر الإبراهيم ومحمد الصادق .
-       زمن الصحوة – ستيفان لاكروا .
-       السعودية سيرة دولة ومجتمع – عبدالعزيز الخضر .
-       المملكة من الداخل – روبوت ليسي . 

الجمعة، 7 فبراير 2014

فتح ملفات الصحوة (2-3)



     خَلُصت المقالة السابقة إلى نتيجة مفادها أن الصحوة لم تكن أكثر من سياق فكري مرحلي يدخل في منظومة التداول السُنني للأفكار والاتجهات ,وأن الحاضر يحمل في رحمه ولادة سياق جديد تماماً , أو ربما قد ولد فعلاً ونحن نعيش الآن ظروف نشأته الدراماتيكية الصاخبة . ما نحن بصدده هو محاولة لفتح ملفات حقبة زمنية ماضية وموغلة في التعقيد والغرابة , والجديرة فعلاً بسبر أغوارها ودهاليزها , ثم تقييمها من وجهة نظرٍ التزمتُ بها منذ المقالة السابقة , وهي وجهة نظر الجيل الشبابي الجديد , عبر تقييم آثارها التي شكّلت قاعدة الوعي عند هذا الجيل , ثم ضغطت بمخرجاتها في اتجاه سياق زمني مختلف .


·     الصحوة والجهاد
     في كتابه ( زمن الصحوة ) يخلُص ستيفان لاكروا إلى نتيجة أن الحالة الدينية في المملكة هي جملة تيارات تحمل في مكنوناتها صراعاً بينياً واضحاً , وقد توصل المؤلف أيضاً إلى براءة الصحوة من الحالة الجهادية , كون أن الجهاد كان يتلقى الدعم الأبرز من التيار الجهادي وليس التيار الصحوي , كما أن العلاقة بين التيارين لم تكن على ما يرام , وأن الصحوة حذرت أتباعها من الانخراط في المشروع الجهادي , باستثناء الدعم المعنوي وربما المالي . أما الدعم بالعناصر القتالية فقد كانت مهمة التيار الجهادي . وبذلك يمكن التوصل إلى نتيجة طريفة : وهي أن الدولة كانت في الموضوع الجهادي والدعوة إليه أكثر راديكالية من الصحوة نفسها , والتي –ولأسباب عدة- رفضت الدخول في الحالة الجهادية ! وبذلك , فإن مهاجمة الشريان في برنامجه (الثامنة) على سلمان العودة تحديداً لم يكن دقيقاً وقد خلط عدة أوراق ببعضها . لكنه صدق في حالة العرعور الذي يعتاش أساساً على الحالة الدينية السعودية , وفقاً لمجال المناورة المرسوم فيها .

نأتي إلى السؤال المهم هنا : هل الصحوة بريئة من الإرهاب ؟

     ربما كانت مهمّة ستيفان لاكروا في كتابه أن يوضح الحقائق مجرّدة من أي إضافات قد تنطلق من منطلقات نقدية أو تقييمية . لذا فمهمتنا الآن الإضافة إلى تلك الحقائق بالقول : إن الصحوة وإن كانت على خلاف مع أبجديات العنف , إلا أنها خلقت تلك الحالة الوجدانية التي وصفناها في المقالة السابقة بـ (الظرف الثقافي) الذي ميّز خصائص تلك المرحلة . فالصراع الذي خاضته الصحوة مع الجميع , وتلك العزلة التي أعطتها لأتباعها , وذلك الفصل القسري الذي حملت المجتمع عليه وعزلته عن العالم وعمّا حوله , والطريقة التي كانت تتعاطى بها مع مخالفيها , كل ذلك قد خلق تلك الأرضية الخصبة التي يمكن أن تنشأ فيها أي دوافع محفّزة للعنف ورفض الآخر . حتى وإن لم تكن على علاقة مباشرة به . فيكفي أنها خلقت – بوعي أو بدون وعي – المناخ الملائم لزرع ثقافة رفض الآخر , ورفض التسامح , وعزل الفرد عن الحياة , وصرف الهمة والطموح عند الناشئة والشباب إلى محددات وعظية تتناول شؤونه السطحية وتعلّقه بالغيبيات , أكثر من أن تؤهله لاستعداد التنافس الحضاري , وطرح أسئلة النهضة , والدخول في صراع التنافس الأممي .

      قد يكون من غير المنطقي مطالبة الصحوة بأكبر من دورها الذي كانت تؤديه بحسب معطياتها , ولكن كما قلت في البداية : نحن نقوم بعمل تقييم زمني لحقبة ننظر إليها الآن من وجهة نظرنا التي تسعى من أجل استكشاف مكامن الخلل , والاستفادة من دروس التاريخ , ومحاولة فهم ذلك السياق .

·     الصحوة والمرأة
       يجب أن نشير إلى أن الصحوة بما أنها كانت حالة (دينية) فيفترض بها أن تكون كذلك حالة تصحيح ديني لوضع المرأة في البيئة . إلا أن الخطاب الصحوي فشل في تصحيح وضع المرأة , بل ربما زاد على وضعها سوءاً إلى سوء . فالخطاب الصحوي مثلاً لا يجهل بأن صوت المرأة لم يكن عورة في يوم من الأيام , ولا يجهل كذلك أن حضورها الفاعل في الحياة العامة هو حقيقة تاريخية عابرة لكل العصور التي تنادي أبجدياتُ الصحوة بالعودة إليها ( فهماً وتطبيقاً وطموحاً ) كأحلام منتظرة . فلماذا تواطأت الصحوة مع المحددات البيئية ضد المرأة ؟ ولماذا لم تصحح وضع المرأة إلا بالدعوة إلى تحجيم دورها الوطني والحياتي , ومنع حضورها على مسرح المشهد العام ؟ كل ذلك , والصحوة لا تجهل مرجعيتها الدينية والفقهية التي تفترض واقعاً آخر للتعامل مع المرأة في الإسلام , إلا أننا لم نشاهد إلا تواطؤاً مع التقاليد الاجتماعية في تكريس النظرة التقليدية إلى المرأة , بل والذهاب إلى أبعد من تقليدية تلك النظرة التي كانت أقلّ حدّة في زمن ما قبل الصحوة , عبر شرعنة تلك النظرة وإلباسها اللبوس الديني اللازم لتسويقها وتكريسها . أدّى كل ذلك إلى المزيد من تعقيد العلاقة بين نصفي المجتمع , حتى بتنا مجتمعاً مفرط الحذر والوسوسة في نظرية العلاقة الطبيعية بين الذكر والأنثى .


·     الصحوة والحياة العامة :
      كان للصحوة إسهامات ضخمة في صياغة شكل الحياة ورسم أُطرها في ذهنية المجتمع , حتى نشأة جيل على علاقة متكهربة نوعياً مع كل مظاهر البهجة والسرور الطبيعية والبريئة . فاستهداف الورود , وكذلك الفنون , والتحذير المستمر منها , قد أنتج حالة من فساد الذوق عند جيل جديد , وانعدمت مظاهر الرقيّ السلوكي والمدني الذي يفترض بالفنون وقيم الجَمال أن تهذّبه في الناشئة . وعمّمت اجتهادات فقهية لم تعرف الاعتراف بالآخر المختلف , وتمّ حشو أذهان الناشئة بتزييف كبير جداً تمثل في التخويف المستمر من الحياة ومن الموت ومن المرأة ومن الفنون ومن كل ما يحيط بالفرد , حتى نشأت تلك النفسية المتوترة -أغلب وقتها- من كل ما يحيط بها , والمبادرة دائما إلى تقديم افتراضات سوء النية والمؤامرة والشعور بالاستهداف الدائم . هذا بطبيعته سيولّد تلقائياً وجداناً مأزوماً من كل شيء حوله , حتى يصل إلى مرحلة الأزمة مع ذاته ليخلق تناقضاته الصارخة . فأصبحنا نرى أشكالاً من الانفصام في عمق ذهنية الفرد بين تصرفاته الخاصة التي لا يعلم بها أحد , وبين ما يقوله في العلن مجاراةً للظاهرة الصوتية المرتفعة !

      هذه بعض الملفات , وليست كلها , وهي كما ذكرت سابقاً : تحتاج إلى مشروع أضخم من مجرد مقالات مهمتها الإشارة السريعة لأفكار محددة . وفي المقالة القادمة والأخيرة , سنتناول آلية سقوط وتهاوي بنيان الصحوة , وكيف سقطت ؟ ولماذا سقطت ؟ والعناصر المؤثرة في سقوطها . ثم سنتناول تلك ( اللحظة الليبرالية ) التي أعقبت أحداث سبتمبر , وكيف سقطت هي الأخرى ؛ كونها حملت ذات العناصر التي حملتها معها حقبة الصحوة وأدت إلى سقوط الحالتين معاً !