الجمعة، 7 فبراير 2014

فتح ملفات الصحوة (2-3)



     خَلُصت المقالة السابقة إلى نتيجة مفادها أن الصحوة لم تكن أكثر من سياق فكري مرحلي يدخل في منظومة التداول السُنني للأفكار والاتجهات ,وأن الحاضر يحمل في رحمه ولادة سياق جديد تماماً , أو ربما قد ولد فعلاً ونحن نعيش الآن ظروف نشأته الدراماتيكية الصاخبة . ما نحن بصدده هو محاولة لفتح ملفات حقبة زمنية ماضية وموغلة في التعقيد والغرابة , والجديرة فعلاً بسبر أغوارها ودهاليزها , ثم تقييمها من وجهة نظرٍ التزمتُ بها منذ المقالة السابقة , وهي وجهة نظر الجيل الشبابي الجديد , عبر تقييم آثارها التي شكّلت قاعدة الوعي عند هذا الجيل , ثم ضغطت بمخرجاتها في اتجاه سياق زمني مختلف .


·     الصحوة والجهاد
     في كتابه ( زمن الصحوة ) يخلُص ستيفان لاكروا إلى نتيجة أن الحالة الدينية في المملكة هي جملة تيارات تحمل في مكنوناتها صراعاً بينياً واضحاً , وقد توصل المؤلف أيضاً إلى براءة الصحوة من الحالة الجهادية , كون أن الجهاد كان يتلقى الدعم الأبرز من التيار الجهادي وليس التيار الصحوي , كما أن العلاقة بين التيارين لم تكن على ما يرام , وأن الصحوة حذرت أتباعها من الانخراط في المشروع الجهادي , باستثناء الدعم المعنوي وربما المالي . أما الدعم بالعناصر القتالية فقد كانت مهمة التيار الجهادي . وبذلك يمكن التوصل إلى نتيجة طريفة : وهي أن الدولة كانت في الموضوع الجهادي والدعوة إليه أكثر راديكالية من الصحوة نفسها , والتي –ولأسباب عدة- رفضت الدخول في الحالة الجهادية ! وبذلك , فإن مهاجمة الشريان في برنامجه (الثامنة) على سلمان العودة تحديداً لم يكن دقيقاً وقد خلط عدة أوراق ببعضها . لكنه صدق في حالة العرعور الذي يعتاش أساساً على الحالة الدينية السعودية , وفقاً لمجال المناورة المرسوم فيها .

نأتي إلى السؤال المهم هنا : هل الصحوة بريئة من الإرهاب ؟

     ربما كانت مهمّة ستيفان لاكروا في كتابه أن يوضح الحقائق مجرّدة من أي إضافات قد تنطلق من منطلقات نقدية أو تقييمية . لذا فمهمتنا الآن الإضافة إلى تلك الحقائق بالقول : إن الصحوة وإن كانت على خلاف مع أبجديات العنف , إلا أنها خلقت تلك الحالة الوجدانية التي وصفناها في المقالة السابقة بـ (الظرف الثقافي) الذي ميّز خصائص تلك المرحلة . فالصراع الذي خاضته الصحوة مع الجميع , وتلك العزلة التي أعطتها لأتباعها , وذلك الفصل القسري الذي حملت المجتمع عليه وعزلته عن العالم وعمّا حوله , والطريقة التي كانت تتعاطى بها مع مخالفيها , كل ذلك قد خلق تلك الأرضية الخصبة التي يمكن أن تنشأ فيها أي دوافع محفّزة للعنف ورفض الآخر . حتى وإن لم تكن على علاقة مباشرة به . فيكفي أنها خلقت – بوعي أو بدون وعي – المناخ الملائم لزرع ثقافة رفض الآخر , ورفض التسامح , وعزل الفرد عن الحياة , وصرف الهمة والطموح عند الناشئة والشباب إلى محددات وعظية تتناول شؤونه السطحية وتعلّقه بالغيبيات , أكثر من أن تؤهله لاستعداد التنافس الحضاري , وطرح أسئلة النهضة , والدخول في صراع التنافس الأممي .

      قد يكون من غير المنطقي مطالبة الصحوة بأكبر من دورها الذي كانت تؤديه بحسب معطياتها , ولكن كما قلت في البداية : نحن نقوم بعمل تقييم زمني لحقبة ننظر إليها الآن من وجهة نظرنا التي تسعى من أجل استكشاف مكامن الخلل , والاستفادة من دروس التاريخ , ومحاولة فهم ذلك السياق .

·     الصحوة والمرأة
       يجب أن نشير إلى أن الصحوة بما أنها كانت حالة (دينية) فيفترض بها أن تكون كذلك حالة تصحيح ديني لوضع المرأة في البيئة . إلا أن الخطاب الصحوي فشل في تصحيح وضع المرأة , بل ربما زاد على وضعها سوءاً إلى سوء . فالخطاب الصحوي مثلاً لا يجهل بأن صوت المرأة لم يكن عورة في يوم من الأيام , ولا يجهل كذلك أن حضورها الفاعل في الحياة العامة هو حقيقة تاريخية عابرة لكل العصور التي تنادي أبجدياتُ الصحوة بالعودة إليها ( فهماً وتطبيقاً وطموحاً ) كأحلام منتظرة . فلماذا تواطأت الصحوة مع المحددات البيئية ضد المرأة ؟ ولماذا لم تصحح وضع المرأة إلا بالدعوة إلى تحجيم دورها الوطني والحياتي , ومنع حضورها على مسرح المشهد العام ؟ كل ذلك , والصحوة لا تجهل مرجعيتها الدينية والفقهية التي تفترض واقعاً آخر للتعامل مع المرأة في الإسلام , إلا أننا لم نشاهد إلا تواطؤاً مع التقاليد الاجتماعية في تكريس النظرة التقليدية إلى المرأة , بل والذهاب إلى أبعد من تقليدية تلك النظرة التي كانت أقلّ حدّة في زمن ما قبل الصحوة , عبر شرعنة تلك النظرة وإلباسها اللبوس الديني اللازم لتسويقها وتكريسها . أدّى كل ذلك إلى المزيد من تعقيد العلاقة بين نصفي المجتمع , حتى بتنا مجتمعاً مفرط الحذر والوسوسة في نظرية العلاقة الطبيعية بين الذكر والأنثى .


·     الصحوة والحياة العامة :
      كان للصحوة إسهامات ضخمة في صياغة شكل الحياة ورسم أُطرها في ذهنية المجتمع , حتى نشأة جيل على علاقة متكهربة نوعياً مع كل مظاهر البهجة والسرور الطبيعية والبريئة . فاستهداف الورود , وكذلك الفنون , والتحذير المستمر منها , قد أنتج حالة من فساد الذوق عند جيل جديد , وانعدمت مظاهر الرقيّ السلوكي والمدني الذي يفترض بالفنون وقيم الجَمال أن تهذّبه في الناشئة . وعمّمت اجتهادات فقهية لم تعرف الاعتراف بالآخر المختلف , وتمّ حشو أذهان الناشئة بتزييف كبير جداً تمثل في التخويف المستمر من الحياة ومن الموت ومن المرأة ومن الفنون ومن كل ما يحيط بالفرد , حتى نشأت تلك النفسية المتوترة -أغلب وقتها- من كل ما يحيط بها , والمبادرة دائما إلى تقديم افتراضات سوء النية والمؤامرة والشعور بالاستهداف الدائم . هذا بطبيعته سيولّد تلقائياً وجداناً مأزوماً من كل شيء حوله , حتى يصل إلى مرحلة الأزمة مع ذاته ليخلق تناقضاته الصارخة . فأصبحنا نرى أشكالاً من الانفصام في عمق ذهنية الفرد بين تصرفاته الخاصة التي لا يعلم بها أحد , وبين ما يقوله في العلن مجاراةً للظاهرة الصوتية المرتفعة !

      هذه بعض الملفات , وليست كلها , وهي كما ذكرت سابقاً : تحتاج إلى مشروع أضخم من مجرد مقالات مهمتها الإشارة السريعة لأفكار محددة . وفي المقالة القادمة والأخيرة , سنتناول آلية سقوط وتهاوي بنيان الصحوة , وكيف سقطت ؟ ولماذا سقطت ؟ والعناصر المؤثرة في سقوطها . ثم سنتناول تلك ( اللحظة الليبرالية ) التي أعقبت أحداث سبتمبر , وكيف سقطت هي الأخرى ؛ كونها حملت ذات العناصر التي حملتها معها حقبة الصحوة وأدت إلى سقوط الحالتين معاً !


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق