في سياق الجدل الفكري والديني الفريد من نوعه في المملكة، لا تزال مفردة
(التغريب) تأخذ تضخمها في الخطاب المحافظ بصورة هجومية على أي تغيير ممكن في الفضاء
الاجتماعي، ضاربة عرض الحائط كلّ حاجات المجتمع
الملحّة، والتي فرضها واقع معاصر بات الجيل الجديد يجد حيرة بالغة في إيجاد مواءمة
ممكنة تكفل له الانسجام مع هذا الواقع، وفي نفس الوقت يحاول إيجاد مخارج منطقية تجاه
جملة من المحددات التي زُرعت في ذهنه وتجذرت، دون أن يضع زارعوها أيّ إمكانية لإنشاء
أي (مخرج طوارئ) مستقبليّ يكفل الخروج الآمن دون الحاجة إلى (كسر الأبواب) .
مفردة (التغريب) تستمدّ طاقتها الكامنة من خلال الحشد الفكري الذي تمّ
خلال عقود مضت، وتمّ به تلوين التصورات العامة بلون محدد، فنتجت جرّاء ذلك التلوين
إعادة رسم جغرافية الثقافة الاجتماعية، وتشكيل الوعي الجمعي بطريقة تجعل أي محاولة
للخروج عن ذلك الإحلال الذي فرضته ظروف زمن الصحوة سقوطًا في دلالة ذلك المصطلح؛ وبالتالي
خروجًا عن (الهُويّة) التي أعيد رسم حدودها وتشكيل معالمها وفق محددات وأدبيات تلك
المرحلة، ووعيها الذي تمدد في الفضاء العام، دون أي منافسة مكافئة؛ حيث مرحلة الخطاب
الواحد والرأي الواحد، دون وجود لأي خطاب آخر يمتلك ذات القدر من الفحولة الصوتية التي
كان يمتلكها خطاب الصحوة في ذلك الوقت .
تعتمد لعبة المصطلح في الخطاب الصحوي على ذات اللعبة التي تستخدمها المنظومة
السلفية نفسها في ابتكار أيقوناتها العقائدية، ووضعها كمعايير لتقسيم الناس من خلالها؛
واضعة بذلك نفسها في أعلى القمّة الهرمية المتميّزة
في الدين الإسلامي، بعد أن يتمّ الجزم بها كمعايير تأخذ صفة الحقائق التي لا تقبل الجدل،
في مسلك لا يُفسر إلا بأنه حالة زهو بالذات وتعالٍ نرجسي إقصائي للآخر المختلف حول
طبيعة تلك الفكرة التي اتخذت في الوعي الصانع لها صفة الحقيقة المطلقة .
إن صناعة الفكرة، ثمّ تقسيم الناس من خلال الموقف منها، لا يمكن أن يصنع
ديمومة لتلك الفكرة، حيث سيأتي الانقلاب –فيما
بعدُ– من منشقّين عن تلك الفكرة ذاتها، لأيّ ظرف من الظروف الزمنية المختلفة، وهذا
ما يفسّر تحلحل الأفكار والأيديولوجيات عبر التاريخ، ولهذا أيضًا نشاهد يوميًّا الدعوات
النابعة من عمق الخطاب الديني في المملكة داعيًا إلى نقض تلك التصورات العتيقة، أو
تجديدها .
تقوم استراتيجية الخطاب الصحوي في إسقاطاته المتكررة لدلالات مصطلح (التغريب)
على محاولة إيقاظ قلق الهُويّة، حيث آخر الحصون الوجدانية التي يمكن التمترس بها للمحافظة
على ما تبقّى من فصول الوصاية على الفضاء الاجتماعي فكريًّا، في زمن جديد لم يعد يخدم
تلك القبضة كما كانت سابق عهدها، فنلاحظ –مؤخرًا– عدم اللجوء للنص الديني في إدارة
المعركة الأزلية مع (التغيير)، بل نجد أنّ الأدوات المستخدمة هي إثارة مخاوف الهويّة
و(الخصوصية) ضمن السياق الديني الدارج، ولكن دون استخدام النص الديني تحديدًا في مواجهة
الفكرة المراد خصومتها، فلماذا؟
مع بدايات عصر أجهزة استقبال البثّ الفضائي دخلت إلى المجال الإدراكي
العام للمجتمع لغة دينية وخطاب ديني جديد أكثر انسجامًا مع الواقع والعصر، وأكثر هدوءًا
وتصالحًا مع الذات، وأكثر قدرةً على استخدام النصّ الديني نفسه، وبالتالي، فلا بدّ
للخطاب المحافظ المحلّي من تغيير الأدوات التي كان يستخدمها قبل عصر الفضائيات، وبالفعل
تمّ اللجوء إلى استحضار مجالات وعي أكثر إنشائية، بحيث لا يمكن أن تُجَابه بالنص الديني
نفسه من قبل خطاب ديني منافس؛ نظرًا لاتكائها على إنشائيات (الهُويّة)، وليس على مادّية
الدين النصية الملموسة، وفي نفس الوقت يتمّ تمرير لغة الاعتراض بطريقة تضمن بقاء شرعيّة
التمثيل الوصائي عبر ادّعاءات الحراسة الحصرية لقيم وثقافة مجتمع كامل متعدّد الأطياف
.
الأمثلة على ذلك كثيرة، وقد يكفي أن نستحضر قضية ابتعاث الطلاب للدراسة
في الخارج للدلالة على كيفية عمل تلك الاستراتيجية؛ فالنص الديني يصرّح بأن على الإنسان
طلب العلم، بل والسفر من أجل تحقيق ذلك، إذًا لا بدّ من حيلة أخرى لمواجهة هذا النص،
وهنا يمكن أن تُثار مخاوف تلك الهُويّة بطريقة تلحّ في القفز على النص الديني وفلسفته
إلى تلك المنطقة الإنشائية غير المنضبطة بموادّ نصيّة واضحة أو معايير محدّدة، والتي
يمكن أن تُستحضر كبديل يمكن استفزازه من أجل رسم صورة الخطر المتخيل، وكلّ ذلك يأتي
في سياق الرغبة في استمرار تسييل اللغة الدينية والخطاب الوعظي بأي طريقة كانت، ولو
على حساب الوعي بمعايير وأبجديات الحقائق الساذجة .
بقي أن نشير إلى أن التغريب الحقيقي الذي حصل للمجتمع السعودي هو تلك
العزلة التي نشأ عليها جيل كامل أصبح يعاني من انعدام القدرة على التعايش والانسجام
مع الآخر المختلف، وتلك المخرجات التي أنتجت جيلًا تنقصه مهارات التواصل مع الشعوب
والثقافات في زمن التسابق المحموم نحو قيم النهضة الحضارية والإنسانية التي قفزت إليها
كثير من الشعوب.
إن التغريب الحقيقيّ لأي مجتمع هو أن يظلّ جزءًا منفصلًا وغريبًا عن هذا
العالم تحت أوهام خصوصية الذات المزهوّة بنرجسية التعالي والعزلة لذريعة النقاء الاعتقادي
والقيمي. والصحيح أن قيم التعايش والتعارف والتقارب والاندماج مع الآخر المختلف، ومع
الحياة ومتغيراتها، لن تؤثر على نبض التديّن والهوية معًا، وتجلّيهما الأزلي في الأرواح،
كما تحاول أن تصوّره منظومة المعارضة للحياة التي لا تكلّ ولا تملّ من تهويل إثارة
مخاوف زوالهما، برغم أنها عملت –هي ذاتها– دون وعي، وبعشوائية التسويق المفرط للدلالات
الادّعائية، على انحراف التديّن والهويّة معًا بأشكال كثيرة .