يسافر إلى دول الجوار من أجل مشاهدة فيلم جديد , ثم يعود إلى الوطن
مؤيداً لمنظومة الممانعة في معارضتها للسينما ! هذا الانفصام له حقيقة أكبر من
كونه مجرد تناقض ظاهر , إنه تضامن وانسجام مع الظاهرة الصوتية المعلنة , الظاهرة
الأكثر أمناً وراحةً من إرهاق ذلك ( الجدل ) الذي يبحث في منطقيات الأشياء ,
وينقّب عن تساؤلاتٍ تغمد نصلها في بنية الثقافة السائدة .
في مقال سابق تحدثت عن أن عناصر هيئة الأمر
بالمعروف يجوبون الأسواق للتأكد من إغلاق المحلات والمتاجر وقت الأذان , في حين أنهم
يعلمون أن العاملين في تلك المحلات ربما أغلقوا على أنفسهم تلك المحلات دون الذهاب
إلى الصلاة مع الجماعة , وقلت إن هذا الحرص من أعضاء هيئة الأمر بالمعروف على ( ظاهرة
إغلاق المحلات وإيقاف الحياة ) أكثر من حرصهم على ( صلاة الفرد ) هو في سياق الرغبة
في تحقيق مظاهر معلنة في إطار الشراكة مع الطرف السياسي في إدارة الحياة العامة في
شقّها الديني , هذا الأداء يساعد على بقاء جذوة الظاهرة مشتعلة , وتنضح بالوهج الديني
الذي يُعطي انطباعاً عن تحقيق ( مظاهر الدين ) في مستويات بعض القيم والتصورات الاجتهادية
التي يُعتقد أنها أصول دينية , وأنها دلالة على نقاء المجتمع وتديّنه , كما أنها
تقدم صورة دعائية يُراد لها أن تعكس شكل المظهر التديّني للمجتمع .
نجد أن هناك رغبة في تحقيق الظاهرة وإعلانها وحمايتها أكثر من الرغبة
في تحقيق الفلسفة الروحية لتلك الظاهرة نفسها , كنوع من الإبقاء على حشد (
التظاهرة ) الثقافية الصاخبة , من أجل تعزيز وحماية ما يُتصور أنه ( خصوصية ) ستعمل
تلك التظاهرة الثقافية على حمايتها من التآكل , أو من اختراق الزمن وتحدياته , فمعارضة
السينما أصبحت دلالة على الحرص على الفضيلة , وتأييدها خلاف ذلك , وربما ترسّخ هذا
المنطق حتى عند الكثيرين ممن يسافرون من أجل مشاهدة فيلم جديد , ثم يعودون (
صالحين ) يستنكرون السماح بافتتاح دور للسينما توفّر عليهم أموالهم التي يبذلونها
من أجل تلك الهواية , وكل ذلك من أجل بقاء تلك الظاهرة ( التدينية ) أو التي توحي
بالتديّن مشتعلةً , أو أعلى صوتاً , حتى وإن أضمرت في كواليسها ما لا يمكن تصديقه
من التردّي الأخلاقي والقيمي . وقس على ذلك كافة القضايا الجدلية التي أصبحت
علامات فارقة في إسقاطات ثنائية ( الخير والشر ) أو ( الحق والباطل ) على من هم مع
تلك الظاهرة , ومن هم ضدها , وهكذا .
الأمر تحوّل إلى ما يشبه ( الشرعية ) التي تضامن عليها الوعي الجمعي
المطمئن للحماية التي توفرها تلك الظاهرة , فالعبارة : ( افعل ما تريد , ولكن حافظ
على صلاتك ) قد أصبحت كالرخصة الممنوحة لممارسة الملذات بشيء من راحة الضمير , فطالما
أن هناك ( ظاهرة / صلاة جماعة / تأييد وتضامن مع الممانعة / محبة للدعاة والوعاظ /
وكراهية للتغريب ) فيمكن للإنسان أن يظل في دائرة تلك ( الراحة والأمان )
الاجتماعي الذي يتقبل ذلك الفرد بكل مساوئه وفواحشه ولا إنسانيته , لكنه قد لا
يتقبله إن كان ( جدلياً ) يعارض تلك القيم السابقة , أو شيئاً منها , حتى مع
نظافته واستقامته خلقياً وإنسانياً , طالما أنه ليس مُذوّباً تماماً في جمهرة النغمة
العامة .
هذا يجب أن يعيدنا إلى حقائق تمارس المساءلة لتلك الظواهر الصوتية
بشيء من المحاكمة التي آن وقتها لنتبين ملامحنا في هذا الزمن :
هل نفذت تلك الظواهر حقّاً
إلى جوهر كينونتها الفلسفية في النفوس ؟
وهل حققت الإشباع الروحي والقيمي للإنسان المعاصر المتطّلع ؟
وهل نجحت أيضاً في تشريب التديّن أو القيم بشكل حاسم في وجدان الأجيال
؟
أعتقد أن تلك الأسئلة , وغيرها , قد تجعلنا – وهذا المفترض – نعيد
صياغة تقديراتنا للوعي بالأشياء ومنطقياتها الأولية , ويحمّلنا مسؤولية إيصال
ثقافة أكثر نضجاً لجيل قادم سيكون جيلاً عملياً في زمن عملي , ولا أتصور أن يظل
وفياً لثقافة تمارس الازدواجية , وتطلب منه أن يبقى مُرهقاً بالتناقضات المتناسلة
من بعضها .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق