الجمعة، 10 أبريل 2015

في خدمة الظاهرة الصوتية


يسافر إلى دول الجوار من أجل مشاهدة فيلم جديد , ثم يعود إلى الوطن مؤيداً لمنظومة الممانعة في معارضتها للسينما ! هذا الانفصام له حقيقة أكبر من كونه مجرد تناقض ظاهر , إنه تضامن وانسجام مع الظاهرة الصوتية المعلنة , الظاهرة الأكثر أمناً وراحةً من إرهاق ذلك ( الجدل ) الذي يبحث في منطقيات الأشياء , وينقّب عن تساؤلاتٍ تغمد نصلها في بنية الثقافة السائدة .

في مقال سابق تحدثت عن أن عناصر هيئة الأمر بالمعروف يجوبون الأسواق للتأكد من إغلاق المحلات والمتاجر وقت الأذان , في حين أنهم يعلمون أن العاملين في تلك المحلات ربما أغلقوا على أنفسهم تلك المحلات دون الذهاب إلى الصلاة مع الجماعة , وقلت إن هذا الحرص من أعضاء هيئة الأمر بالمعروف على ( ظاهرة إغلاق المحلات وإيقاف الحياة ) أكثر من حرصهم على ( صلاة الفرد ) هو في سياق الرغبة في تحقيق مظاهر معلنة في إطار الشراكة مع الطرف السياسي في إدارة الحياة العامة في شقّها الديني , هذا الأداء يساعد على بقاء جذوة الظاهرة مشتعلة , وتنضح بالوهج الديني الذي يُعطي انطباعاً عن تحقيق ( مظاهر الدين ) في مستويات بعض القيم والتصورات الاجتهادية التي يُعتقد أنها أصول دينية , وأنها دلالة على نقاء المجتمع وتديّنه , كما أنها تقدم صورة دعائية يُراد لها أن تعكس شكل المظهر التديّني للمجتمع .

نجد أن هناك رغبة في تحقيق الظاهرة وإعلانها وحمايتها أكثر من الرغبة في تحقيق الفلسفة الروحية لتلك الظاهرة نفسها , كنوع من الإبقاء على حشد ( التظاهرة ) الثقافية الصاخبة , من أجل تعزيز وحماية ما يُتصور أنه ( خصوصية ) ستعمل تلك التظاهرة الثقافية على حمايتها من التآكل , أو من اختراق الزمن وتحدياته , فمعارضة السينما أصبحت دلالة على الحرص على الفضيلة , وتأييدها خلاف ذلك , وربما ترسّخ هذا المنطق حتى عند الكثيرين ممن يسافرون من أجل مشاهدة فيلم جديد , ثم يعودون ( صالحين ) يستنكرون السماح بافتتاح دور للسينما توفّر عليهم أموالهم التي يبذلونها من أجل تلك الهواية , وكل ذلك من أجل بقاء تلك الظاهرة ( التدينية ) أو التي توحي بالتديّن مشتعلةً , أو أعلى صوتاً , حتى وإن أضمرت في كواليسها ما لا يمكن تصديقه من التردّي الأخلاقي والقيمي . وقس على ذلك كافة القضايا الجدلية التي أصبحت علامات فارقة في إسقاطات ثنائية ( الخير والشر ) أو ( الحق والباطل ) على من هم مع تلك الظاهرة , ومن هم ضدها , وهكذا .

الأمر تحوّل إلى ما يشبه ( الشرعية ) التي تضامن عليها الوعي الجمعي المطمئن للحماية التي توفرها تلك الظاهرة , فالعبارة : ( افعل ما تريد , ولكن حافظ على صلاتك ) قد أصبحت كالرخصة الممنوحة لممارسة الملذات بشيء من راحة الضمير , فطالما أن هناك ( ظاهرة / صلاة جماعة / تأييد وتضامن مع الممانعة / محبة للدعاة والوعاظ / وكراهية للتغريب ) فيمكن للإنسان أن يظل في دائرة تلك ( الراحة والأمان ) الاجتماعي الذي يتقبل ذلك الفرد بكل مساوئه وفواحشه ولا إنسانيته , لكنه قد لا يتقبله إن كان ( جدلياً ) يعارض تلك القيم السابقة , أو شيئاً منها , حتى مع نظافته واستقامته خلقياً وإنسانياً , طالما أنه ليس مُذوّباً تماماً في جمهرة النغمة العامة .

هذا يجب أن يعيدنا إلى حقائق تمارس المساءلة لتلك الظواهر الصوتية بشيء من المحاكمة التي آن وقتها لنتبين ملامحنا في هذا الزمن :
 هل نفذت تلك الظواهر حقّاً إلى جوهر كينونتها الفلسفية في النفوس ؟
وهل حققت الإشباع الروحي والقيمي للإنسان المعاصر المتطّلع ؟
وهل نجحت أيضاً في تشريب التديّن أو القيم بشكل حاسم في وجدان الأجيال ؟

أعتقد أن تلك الأسئلة , وغيرها , قد تجعلنا – وهذا المفترض – نعيد صياغة تقديراتنا للوعي بالأشياء ومنطقياتها الأولية , ويحمّلنا مسؤولية إيصال ثقافة أكثر نضجاً لجيل قادم سيكون جيلاً عملياً في زمن عملي , ولا أتصور أن يظل وفياً لثقافة تمارس الازدواجية , وتطلب منه أن يبقى مُرهقاً بالتناقضات المتناسلة من بعضها .


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق