الخميس، 31 ديسمبر 2015

افتتاحية الكتابة في صحيفة مكة







تحية طيبة ..

أنا وحيد الغامدي .. سأكون معكم من خلال هذا الصرح الصحفي الجميل .. قبل سنوات طويلة خرجت من مكة ( الأم ) وفي شعوري هاتف يطرق بإلحاح أنني قد أعود إليها , ولم أكن أعتقد أنني سأعود من خلال ( مكة ) الابنة البارّة !

قبل سنوات طويلة أيضاً .. طرقت باب صحيفة ( الندوة ) الامتداد التاريخي لـ ( مكة ) أيام كنت طالباً في جامعة أم القرى , تتراقص آمالي مع آلامي في صدر واحد , لعلّي أحظى بوظيفة مدقق لغوي أو مراسل أو أي وظيفة بسيطة تدرّ على طالب جامعي يتيم الأب ما يمكن الاستعانة به على أعباء الحياة الجامعية ومستلزماتها , اصطدمتُ حينها بواقع ظروف الصحيفة التي كانت على وشك الإغلاق آنذاك بسبب أزمتها المالية .. خرجت من باب الصحيفة كما دخلت .. إلا أنه لم يدر بخلدي أن صحيفة أخرى ستخرج من أحشائها وسوف تستدعيني للكتابة في صفحاتها ذات يوم !

ما أشدّ سخرية الحياة .. وما أبلغ دراميّتها العنيفة أحيانا .. لا نعلم ماذا تخبئ لنا الأيام من مفارقات عجيبة .. ولا ندري أين ستسقرّ مراكبنا التي لا تملّ السفر والترحال .. ولا ندري نحن بأي أرض سُنخلق من جديد , أو نموت !

أعود إلى ( مكة ) اليوم كما دخلت مدينة مكة في أول يوم لي في مقاعد الجامعة , قلب ممتلئ بالرغبة في التعلم .. أريد أن أتعلم من قُرائي أكثر من رغبتي في تعليمهم أي شيء قد يكونوا يعلموه أفضل مني .. سأصحبكم في صفحة الرأي .. هو في النهاية مجرد رأي .. حين نطرح آراءنا فلا يعني أنها أصبحت حقائق مطلقة , إنني أتعلم في كل يوم رأياً جديداً .. بعض هذا الجديد ينسف القديم , وبعضه يعززه .. لكنني في كل الأحوال لن أقدم إلا ما أعتقد أنني أقتنع به , 

بدايةً من هذه اللحظة , سأبدأ في إنزال المقالات التي نشرت في صحيفة مكة , والتي منعت من النشر أيضاً تباعاً .


مداخلة في موضوع الطائفية على قناة ANN


تعليقاً على موضوع زواج أحد المطلوبين أمنياً داخل السجن - قناة الاقتصادية السعودية


الجمعة، 10 أبريل 2015

جدلية ( التغريب ) وحقيقته


في سياق الجدل الفكري والديني الفريد من نوعه في المملكة، لا تزال مفردة (التغريب) تأخذ تضخمها في الخطاب المحافظ بصورة هجومية على أي تغيير ممكن في الفضاء الاجتماعي، ضاربة  عرض الحائط كلّ حاجات المجتمع الملحّة، والتي فرضها واقع معاصر بات الجيل الجديد يجد حيرة بالغة في إيجاد مواءمة ممكنة تكفل له الانسجام مع هذا الواقع، وفي نفس الوقت يحاول إيجاد مخارج منطقية تجاه جملة من المحددات التي زُرعت في ذهنه وتجذرت، دون أن يضع زارعوها أيّ إمكانية لإنشاء أي (مخرج طوارئ) مستقبليّ يكفل الخروج الآمن دون الحاجة إلى (كسر الأبواب) .

مفردة (التغريب) تستمدّ طاقتها الكامنة من خلال الحشد الفكري الذي تمّ خلال عقود مضت، وتمّ به تلوين التصورات العامة بلون محدد، فنتجت جرّاء ذلك التلوين إعادة رسم جغرافية الثقافة الاجتماعية، وتشكيل الوعي الجمعي بطريقة تجعل أي محاولة للخروج عن ذلك الإحلال الذي فرضته ظروف زمن الصحوة سقوطًا في دلالة ذلك المصطلح؛ وبالتالي خروجًا عن (الهُويّة) التي أعيد رسم حدودها وتشكيل معالمها وفق محددات وأدبيات تلك المرحلة، ووعيها الذي تمدد في الفضاء العام، دون أي منافسة مكافئة؛ حيث مرحلة الخطاب الواحد والرأي الواحد، دون وجود لأي خطاب آخر يمتلك ذات القدر من الفحولة الصوتية التي كان يمتلكها خطاب الصحوة في ذلك الوقت .

تعتمد لعبة المصطلح في الخطاب الصحوي على ذات اللعبة التي تستخدمها المنظومة السلفية نفسها في ابتكار أيقوناتها العقائدية، ووضعها كمعايير لتقسيم الناس من خلالها؛ واضعة  بذلك نفسها في أعلى القمّة الهرمية المتميّزة في الدين الإسلامي، بعد أن يتمّ الجزم بها كمعايير تأخذ صفة الحقائق التي لا تقبل الجدل، في مسلك لا يُفسر إلا بأنه حالة زهو بالذات وتعالٍ نرجسي إقصائي للآخر المختلف حول طبيعة تلك الفكرة التي اتخذت في الوعي الصانع لها صفة الحقيقة المطلقة .

إن صناعة الفكرة، ثمّ تقسيم الناس من خلال الموقف منها، لا يمكن أن يصنع ديمومة  لتلك الفكرة، حيث سيأتي الانقلاب –فيما بعدُ– من منشقّين عن تلك الفكرة ذاتها، لأيّ ظرف من الظروف الزمنية المختلفة، وهذا ما يفسّر تحلحل الأفكار والأيديولوجيات عبر التاريخ، ولهذا أيضًا نشاهد يوميًّا الدعوات النابعة من عمق الخطاب الديني في المملكة داعيًا إلى نقض تلك التصورات العتيقة، أو تجديدها .

تقوم استراتيجية الخطاب الصحوي في إسقاطاته المتكررة لدلالات مصطلح (التغريب) على محاولة إيقاظ قلق الهُويّة، حيث آخر الحصون الوجدانية التي يمكن التمترس بها للمحافظة على ما تبقّى من فصول الوصاية على الفضاء الاجتماعي فكريًّا، في زمن جديد لم يعد يخدم تلك القبضة كما كانت سابق عهدها، فنلاحظ –مؤخرًا– عدم اللجوء للنص الديني في إدارة المعركة الأزلية مع (التغيير)، بل نجد أنّ الأدوات المستخدمة هي إثارة مخاوف الهويّة و(الخصوصية) ضمن السياق الديني الدارج، ولكن دون استخدام النص الديني تحديدًا في مواجهة الفكرة المراد خصومتها، فلماذا؟

مع بدايات عصر أجهزة استقبال البثّ الفضائي دخلت إلى المجال الإدراكي العام للمجتمع لغة دينية وخطاب ديني جديد أكثر انسجامًا مع الواقع والعصر، وأكثر هدوءًا وتصالحًا مع الذات، وأكثر قدرةً على استخدام النصّ الديني نفسه، وبالتالي، فلا بدّ للخطاب المحافظ المحلّي من تغيير الأدوات التي كان يستخدمها قبل عصر الفضائيات، وبالفعل تمّ اللجوء إلى استحضار مجالات وعي أكثر إنشائية، بحيث لا يمكن أن تُجَابه بالنص الديني نفسه من قبل خطاب ديني منافس؛ نظرًا لاتكائها على إنشائيات (الهُويّة)، وليس على مادّية الدين النصية الملموسة، وفي نفس الوقت يتمّ تمرير لغة الاعتراض بطريقة تضمن بقاء شرعيّة التمثيل الوصائي عبر ادّعاءات الحراسة الحصرية لقيم وثقافة مجتمع كامل متعدّد الأطياف .

الأمثلة على ذلك كثيرة، وقد يكفي أن نستحضر قضية ابتعاث الطلاب للدراسة في الخارج للدلالة على كيفية عمل تلك الاستراتيجية؛ فالنص الديني يصرّح بأن على الإنسان طلب العلم، بل والسفر من أجل تحقيق ذلك، إذًا لا بدّ من حيلة أخرى لمواجهة هذا النص، وهنا يمكن أن تُثار مخاوف تلك الهُويّة بطريقة تلحّ في القفز على النص الديني وفلسفته إلى تلك المنطقة الإنشائية غير المنضبطة بموادّ نصيّة واضحة أو معايير محدّدة، والتي يمكن أن تُستحضر كبديل يمكن استفزازه من أجل رسم صورة الخطر المتخيل، وكلّ ذلك يأتي في سياق الرغبة في استمرار تسييل اللغة الدينية والخطاب الوعظي بأي طريقة كانت، ولو على حساب الوعي بمعايير وأبجديات الحقائق الساذجة .

بقي أن نشير إلى أن التغريب الحقيقي الذي حصل للمجتمع السعودي هو تلك العزلة التي نشأ عليها جيل كامل أصبح يعاني من انعدام القدرة على التعايش والانسجام مع الآخر المختلف، وتلك المخرجات التي أنتجت جيلًا تنقصه مهارات التواصل مع الشعوب والثقافات في زمن التسابق المحموم نحو قيم النهضة الحضارية والإنسانية التي قفزت إليها كثير من الشعوب.


إن التغريب الحقيقيّ لأي مجتمع هو أن يظلّ جزءًا منفصلًا وغريبًا عن هذا العالم تحت أوهام خصوصية الذات المزهوّة بنرجسية التعالي والعزلة لذريعة النقاء الاعتقادي والقيمي. والصحيح أن قيم التعايش والتعارف والتقارب والاندماج مع الآخر المختلف، ومع الحياة ومتغيراتها، لن تؤثر على نبض التديّن والهوية معًا، وتجلّيهما الأزلي في الأرواح، كما تحاول أن تصوّره منظومة المعارضة للحياة التي لا تكلّ ولا تملّ من تهويل إثارة مخاوف زوالهما، برغم أنها عملت –هي ذاتها– دون وعي، وبعشوائية التسويق المفرط للدلالات الادّعائية، على انحراف التديّن والهويّة معًا بأشكال كثيرة .

( خير أمّة أخرجت للناس )


في الوعي السلفي يتخذ مفهوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر صورة مغايرة عن ذات المفهوم في مذاهب ومدارس إسلامية أخرى , وحين ترفع هيئة الأمر بالمعروف مثلاً شعارها التسويقي ( خير أمة ) فهي سوف ترسم بذلك الشعار تلقائيا حدود تلك الخيرية في الأذهان , فتربطها مباشرة بمفاهيم الطهرانية الفردية , أو التنقية السلوكية للفرد ؛ من أجل تبرير مهمّتها البوليسية التي تقوم بها في ملاحقة تلك ( المنكرات ) المتعلقة بالأفراد , وتحثّهم على تلك التنقية الضرورية من تلك المنكرات , في حين أن تلك المنكرات غير مستقرّة  , وبالإمكان إضافة أو حذف أي ( منكر ) ضمن القائمة الطويلة التي تقوم الفتاوى السلفية بتحديثها باستمرار , وتتعهدها باستراتيجية ( سدّ الذرائع )  .

وكما ذكرت أعلاه , فتلك الصورة ما هي إلا صورة واحدة تقدّمها السلفية والمذهب الحنبلي عموماً في تفسير مفاهيم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر , والأمر يختلف كلياً في مذهب آخر , فعند المعتزلة مثلاً تقوم فلسفة الأمر بالمعروف على محورية ( المعارضة السياسية ) فنجد أن تفسيرهم للمعروف والمنكر يتعلق بالسلوك السياسي , فيتم ( تغيير المنكر ) لديهم أو ( ممارسة الاحتساب ) تجاه المنظومة السياسية ( ولي الأمر ) دون أن يُعطوا كثير اهتمام لمنكرات الأفراد , أي أن الأمر بالمعروف لديهم يكون باتجاه تقويم الأداء العام للحاكم , وليس باتجاه الفرد .

حسناً .. سنترك المذاهب العقدية , ولنأخذ مذهباً فقهياً في إطار الطائفة السنّية نفسها , أو حتى طائفة أهل الحديث أنفسهم , فعند الشوافع مثلاً يختلف كذلك المعروف والمنكر , وفي هذا السياق يحدثنا ابن الأثير في كتاب ( الكامل في التاريخ ) عن فتنة الحنابلة في بغداد ,. يقول ابن الأثير :
(( ذِكْرُ فِتْنَةِ الْحَنَابِلَةِ بِبَغْدَاذَ :
وَفِيهَا عَظُمَ أَمْرُ الْحَنَابِلَةِ، وَقَوِيَتْ شَوْكَتُهُمْ، وَصَارُوا يَكْسِبُونَ مِنْ دُورِ الْقُوَّادِ وَالْعَامَّةِ، وَإِنْ وَجَدُوا نَبِيذًا أَرَاقُوهُ، وَإِنْ وَجَدُوا مُغَنِّيَةً ضَرَبُوهَا وَكَسَرُوا آلَةَ الْغِنَاءِ، وَاعْتَرَضُوا فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ، وَمَشَى الرِّجَالُ مَعَ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ، فَإِذَا رَأَوْا ذَلِكَ سَأَلُوهُ عَنِ الَّذِي مَعَهُ مَنْ هُوَ، فَأَخْبَرَهُمْ، وَإِلَّا ضَرَبُوهُ وَحَمَلُوهُ إِلَى صَاحِبِ الشُّرْطَةِ، وَشَهِدُوا عَلَيْهِ بِالْفَاحِشَةِ، فَأَرْهَجُوا بَغْدَاذَ.
فَرَكِبَ بَدْرٌ الْخَرْشَنِيُّ، وَهُوَ صَاحِبُ الشُّرْطَةِ، عَاشِرَ جُمَادَى الْآخِرَةِ ( سنة 323هـ ) وَنَادَى فِي جَانِبَيْ بَغْدَاذَ، فِي أَصْحَابِ أَبِي مُحَمَّدِ الْبَرْبَهَارِيِّ الْحَنَابِلَةِ، أَلَا يَجْتَمِعُ مِنْهُمُ اثْنَانِ وَلَا يَتَنَاظَرُوا فِي مَذْهَبِهِمْ، وَلَا يُصَلِّي مِنْهُمْ إِمَامٌ إِلَّا إِذَا جَهَرَ بِبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ وَالْعِشَاءَيْنِ، فَلَمْ يُفِدْ فِيهِمْ، وَزَادَ شَرُّهُمْ وَفِتْنَتُهُمْ، وَاسْتَظْهَرُوا بِالْعُمْيَانِ الَّذِينَ كَانُوا يَأْوُونَ الْمَسَاجِدَ، وَكَانُوا إِذَا مَرَّ بِهِمْ شَافِعِيُّ الْمَذْهَبِ أَغْرَوْا بِهِ الْعُمْيَانَ، فَيَضْرِبُونَهُ بِعِصِيِّهِمْ، حَتَّى يَكَادَ يَمُوتُ...)) الكامل في التاريخ,ابن الأثير ج8ص307

وقد تكشف لنا تلك الحادثة أيضاً أجواء التعددية المذهبية في بغداد آنذاك , والتي لم يستطع الحنابلة – كما بيّنت القصة – تحمّل أو استساغة ذلك التنوّع  , إلا أن ما نحن بصدده هنا هو تلمّس جذور مفاهيم المنكر في إطاره المحدد بالصبغة المذهبية والتي تمت صياغة مفاهيمها تلك بصورة حاسمة ؛ ليصبح بعد ذلك من ينتقد ذلك الأداء الاحتسابي ( المذهبي بطبعه ) منتقداً للإسلام بأكمله !

وعليه فإننا نتساءل الآن , من هي ( خير أمّة ) أخرجت للناس , إذا كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تختلف فيه هذه الأمة داخلياً ؟ وهل يحق لنا أن نتصوّر أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر – في هذا الزمن – سيحقق لنا إنجازاً يدفع بتلك ( الخيرية ) لتصنع لنا نهضة شاملة تضعنا فعلياً في موضع ( خير أمة ) على وجه الأرض ؟
السؤال الأخير بالذات سببه هو أن اختلافاً عميقاً في تلك المفاهيم علينا أن نضعه في اعتبارنا أثناء حسم هكذا شعار ( خير أمة ) , لنتساءل بعد ذلك : ما هو المعروف وما هو المنكر اللذان يمكن لنا أن نمارس بشأنهما ما يدفعنا لنكون بمستوى ذلك الشعار عملياً ؟


بأي دِين سننهض ؟


حين نتأمل اليوم في أي مذهب معاصر من مذاهب الدين الإسلامي المتعددة , سنجد أن بدايات تكوين ذلك المذهب تختلف عن صورته التي أصبح عليها , أي أنه قد يحصل له مختلف التغييرات ( تطوّر , ردّات فعل معاكسة , تغيير تكتيكي , دروس تاريخية , إلخ ) وبالتالي سيكون منتهاه متبايناً ( كليّاً أو جزئياً ) عن ابتدائه وقت تكوينه .

هذا الأمر بحدّ ذاته سيفتح سؤالاً خطيراً كهذا :
إذا كان ( المذهب ) والذي هو صورة جزئية وفرعية عن الدين الإسلامي لم يصمد أمام عوامل تعرية السنين والأزمان , فماذا عن الدين الإسلامي كاملاً ؟

هذا السؤال ليس من أجل إيجاد نوافذ تشكيك في الدين الإسلامي أو حتى في صورته الحالية على الأقل , بقدر ما هو محاولة لقدح الذهن للتأمل – بعض الشيء – في مآلات الفلسفة الإسلامية الكبرى كما جاءت في تلك النسخة الأولى من إسلام ما قبل المذاهب , في محاولة للبحث عن صورة ما لتلك النسخة المفقودة , وكيف ذابت لصالح جزئيات مذهبية مشغولة بقضاياها .

إن فلسفة أي مذهب من مذاهب الإسلام اليوم ما هي إلا ( ردّة فعل ) تجاه فلسفة مذهب آخر , أو تجاه فكرة سياسية , أو تجاه أشخاص , وجذور أي مذهب ومنشؤه يكشف فوراً أنه مجرد ردّة فعل وقتية , ولكن كُتب لها الاستمرار مع استمرار ذات العوامل المغذية له أيديولوجياً .

وسط هذه المتواليات من ردّات الفعل التي كوّنت في النهاية مذاهب متعددة بتعدد تلك المواقف الضدّية بين المسلمين في فترات تاريخية سابقة , ضاعت تلك الفلسفة الكليّة للدين الإسلامي وتفرّق دمها بين مذاهب فرعية وجزئيات تسلّقت الحديث النبوي والتفسير والسيرة ورسّخت أيديولوجيتها , فجاء الدين الإسلامي في صورة تلك المذهبية الضيقة مُختزلاً ذا وجه محدد بحسب بلد وثقافة المنشأ , كما جاء متضاداً في معطياته بين مذهب وآخر , وبين بلد وبلد آخر , بين ثقافة وأخرى .

في إطار المذهب الواحد , جاءت الاختلافات بين زمن وآخر , وبين مكان وآخر , الزمان والمكان هنا كانا ضمن عوامل التعرية التي أثّرت في تماسك المذهب الواحد , فلم يصمد , فما الذي يمكن أن نقوله عن دين أشمل يضم جزئية ذلك المذهب وضدّها , يحتوي تلك الثقافة ونقيضها , يتضمن ذلك البلد الإسلامي وعدوّه من البلاد ( الإسلامية ) الأخرى ؟

في نقاشات الدين والهوية تختلط الكثير من التصورات التي أضيفت لاحقاً وترسّخت – لتراكمها الزمني – كجزء من بنية تلك الهوية وذلك الدين , ونحن هنا لا نناقش اختلافات في فروع الفقه البسيطة كالتي بين الشوافع والمالكية في مسائل لا تذكر, بل اختلافات جذرية كليّاً طفحت في داخل المذهب الواحد , كالذي حصل بين الحنابلة الأوائل أنفسهم في مسائل التجسيم والإثبات مثلاً , أو كالتي بين حنابلة بغداد الذين كانوا يتبركون بقبر أحمد بن حنبل وبين حنابلة دمشق الذين جاؤوا في زمن لاحق ! إنها اختلافات تؤسس لما بعدها , وتبني تاريخاً قادماً , وتشكّل مسارات جديدة , هذا داخل المذهب الواحد , فكيف بدين كامل أوسع في كافة العناصر الجغرافية والتاريخية والأنثروبولوجية  !

الغريب في الأمر أن المذاهب يحصل لها مختلف التغييرات التي تعطف من مساراتها ماعدا أن يحصل لها المراجعة الحرّة والشجاعة لأخطائها أو أن تمارس النقد الذاتي التصحيحي , ومتى ما كانت هذه الفضيلة ديدناً للمذاهب الإسلامية اليوم فحينها يمكن أن تكون هناك عودة حقيقية أو ( اقتراب ) بشكل أو بآخر من تلك النسخة الأولى من الإسلام , وحينها يمكن أن نصدق هكذا شعار ( لن تقوم للأمة قائمة إلا بالعودة إلى دينها ) , وبدون ذلك فأي دين يمكن العودة إليه ؟

المتمذهب نفسه لا يمكن له أن يعود إلى نسخته الأولى التي نشأ عليها مذهبه , فكيف سيعود إلى ما فوق أدبيات المذهب من مشتركات وقيم أخرى كانت هي نفسها سبباً في قيام مذهبه ؟

وفق مبدأ المراجعة التاريخية والتصحيح المفترض , يمكن جداً القفز على كلّ ركام التاريخ ؛ من أجل البدء في طريق المستقبل الجاد الذي لم يعد مستساغاً فيه العيش وفق ذات المضغ القديم لذات الأدبيات الغارقة في جزئيات التفريق والكراهية ضد الآخر . حقّاً نريد أن نعيش مثل غيرنا من أمم الأرض !







شعائر .. أم مظاهر ؟


من مشاهداتي اليومية في مدينتي الصناعية التي أقيم فيها منظر الكثير من العمال والموظفين الذين يغتنمون الوقت المخصص للراحة والغداء وهو من الساعة 12 ظهراً ولمدة ساعة ,بحسب نظام الـ(Break time ), فترى العشرات من أولئك العمال والموظفين على أبواب المطاعم والمحال التجارية , ومن المعروف أن تلك الساعة تصادف صلاة الظهر في أغلب مدن المملكة , فيتألم من في قلبه ذرة إنسانية من منظر الكثيرين وقد اعتلت وجوههم ملامح الأسف والامتعاض حين يصلون إلى باب المطعم أو المتجر فيكون مقفلاً , في تلك الساعة الوحيدة المسموح لهم فيها بالخروج للغداء , وهكذا بشكل يومي !

في هكذا مدينة , ما الذي يُدعو إلى الإصرار على إغلاق المتاجر وقت الآذان , ولمدة أربعين دقيقة ؟ ولو سلّمنا جدلاً أن إغلاق المحلات ضرورة دينية , فلماذا الإصرار على مدة ( عشرين دقيقة ) بين الآذان والإقامة ؟ والغريب أن كل مسجد في كل مدينة وقرية وهجرة يلتزم بهذا ( القانون ) في دولة مترامية كالقارة , في حين أن الكثير من الأحكام القضائية الأكثر خطورة فيما يتعلق بالأحداث الجنائية العامة غير خاضعة لذات التقنين الموحد , مما يثير الدهشة من طبيعة الأولويات التي تأخذها مسارات الوعي الديني محلياً !

إن تقرير المدة بين الآذان والإقامة كانت عبارة عن فتوى للشيخ محمد بن إبراهيم , كما سيتضح لاحقاً  , لكن السؤال الآن هو : هل هذه الفتوى نص مقدس بحيث لا يمكن تعديلها ؟ ألا يمكن أن تكون خمس دقائق مثلاً ؟ خصوصاً إذا عرفنا أن سبب تراخي الناس عن صلاة الجماعة هو تلك المدة الطويلة بين الآذان والإقامة , بينما لو كانت خمس دقائق مثلاً , فسوف يكون عند المصلين الاستعداد الكامل على أن يتواجدوا في المساجد مع الآذان أو بعده مباشرة , فما هي الحاجة لأن تتوقف شرايين الحياة عشرون دقيقة يضاف إليها عشرون أخرى لأداء الصلاة وفتح المحلات ؟

نحن اليوم نسير على فتاوى وآراء وضعها رجال دين سابقون عاشوا حياة لم تكن عملية , وتختلف اختلافاً جذرياً عن حياة اليوم , وينفذ هذه التعاليم اليوم ويتعهدها محتسبون ورجال دين لم يعرفوا عن معاناة الآلاف , ويعيشون نفس النمط من العيش والتصورات التي عاشها رجال الدين قبل عقود .

العقل الديني المحلي يتصور أن الدنيا يمكنها أن تقف لعشرات الدقائق من أجل الصلاة . وفي رسالة بعثها الشيخ محمد بن إبراهيم إلى الملك سعود آنذاك , يقول فيها :
((فتوى رقم 444- ( بشأن ايقاف السيارات اثناء فترة الصلاة)
من محمد بن إبراهيم إِلى حضرة صاحب الجلالة الملك المعظم ... أَيده الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد:
فقد أَصبحت البلاد بحالة سيئة من ناحية عدم المبالاة بأَداء الصلاة جماعة في المساجد، وكان المؤذنون يؤذنون ويصلي الناس والأَسواق مزدحمة بسير السيارات، فأَصبح الأَمر في حاجة ماسة إِلى سرعة علاج حاسم يضمن بإِذن الله اشتغال المسلمين حين وقت الصلاة بالصلاة في المساجد، وأَقرب علاج للموضوع هو أَن يوضع تعليمات لسير السيارات وللأَذان والإِقامة.
أَما السيارات فتصدر الأَوامر المشددة على رجال المرور بتوقيف سيرها بعد الأَذان بعشر دقائق إِلى أَن تنقضي الصلاة. هذا في الظهر والعصر والعشاء. أَما المغرب فتوقف قبل غروب الشمس بخمس دقائق نظرًا لقرب الفترة التي بين الأَذان والإِقامة.
وأَما الأَذان والإِقامة فيصدر تعليمات من الجهات المختصة بأَن يحدد الأَذان بعد دخول وقته بوقت واحد، ويقع دفعة واحدة، وتكون الإِقامة في الظهر والعصر والعشاء بعد الأَذان بثلث ساعة، أَما الفجر فلا حاجة فيه إِلى هذا التحديد. وأَما المغرب فإِن الأَذان لها مؤقت بغروب الشمس، والإِقامة بعده بعشر دقائق، وإِيقاف سير السيارات يكون قبل الغروب بخمس دقائق. هذه تعليمات يجب اتباعها طاعة لله ورسوله حيث أَمر بأَداء الصلوات في أَوقاتها. فنرجو الأَمر بتطبيقها واعتمادها. تولاكم الله بتوفيقه. ))
المصدر - فتاوى ورسائل الشيخ محمد بن إبراهيم ج 2 ص 132 – 133

هكذا كان يُقرر شكل الحياة , ولست أدري هل كان يعي العقل الديني آنذاك أن بإيقاف كل أشكال الحياة المدنية وتعطيل مصالح الناس في أوقات الصلوات , وبالقوة الجبرية , يمكن أن يجعل للصلاة جاذبية عند الفرد الذي يعيش في هذا البلد ؟ وهل هذه هي فلسفة الصلاة وهي المعروفة أنها علاقة روحانية بين الفرد وخالقه ؟

مشكلة العقل الديني المحلي أنه يعيش نمطاً من الحياة , وفي وسط اجتماعي بين طلبة العلم وأجواء المساجد وحلقات الدروس , ويعتقد أن كل إنسان بإمكانه أن يعيش ذات الطريقة النمطية التي لا تخضع للمصالح الخاصة والمسؤوليات والأشغال والالتزامات . ومن هنا تنطلق الكثير من الفتاوى التي تُفصّل على مقاييس تلك النمطية الخاصة من الحياة التي لا تعرف ما يدور خارج أسوار تلك البيئة .

والمشكلة الأخرى .. هي أن هناك شيء من الرغبة الملحّة عند العقل الوهابي تحديداً ( الشريك الديني في الحكم ) في الحرص على إظهار وإعلان المظاهر الدينية في الحياة العامة , ولو بالقوة الجبرية , كنوع من إثبات حضور الكينونة الدينية ضمن الشراكة التاريخية داخل الكيان السياسي , ويدلّل على هذا الأمر أن عناصر دوريات الأمر بالمعروف لا يخفى عليهم أن أكثر العاملين في المحلات التجارية يُغلقون على أنفسهم أبواب المحلات إلى حين انتهاء الصلاة , تقيداً بالقانون , ويعلمون تمام العلم أن الكثير من أصحاب المحلات لا يلتزمون بحضور صلاة الجماعة , وبالتالي فكأن الهدف المطلوب ليست الصلاة للفرد بحد ذاتها , بل إطلاق ( التظاهرة ) الدينية المتمثلة في إيقاف كل المناشط الاقتصادية بسبب دخول وقت الصلاة , وفي النهاية فسيعمل كل ذلك على تحقيق ما يوصف بأنه ( إقامة لشعائر الدين ), وهذا الأمر في الأساس يُحقق الإشباع الوجداني عند المنظومة الدينية المحلّية في إظهار تلك الشعائر بأعلى درجة صوتية مرتفعة كنوع من التمسك بحق المحاصصة في تلك الشراكة في إدارة الدولة والمجتمع من الجانب الديني , لنتساءل بعد ذلك : هل شعائر الدين تلك تفترض تعطيل الحياة تماماً خمس مرات يومياً ولمدة تزيد عن أربعين دقيقة مع كل صلاة , وتشمل أيضاً محطات السفر الضرورية جداً , والتي لا يفترض بها أساساً أن تتوقف لا شرعاً ولا عقلاً ولا إنسانياً ؟
لكن فيما يبدو أن مقتضيات تلك الشراكة قد غطّت على المقاصد الفلسفية الكبرى التي جاءت بها السماحة الدينية في نسختها الأولى المفقودة !



حين نقيّم اليوم مدى جاذبية التدين في نفوس الشباب , بل وحين نرى حالات التمرد الصارخة والإلحاد , فلا يمكن أبداً وضع اللائمة إلا على نمطية التربية الدينية التي يتعرض لها النشء في هذا المجتمع حين يرى أن الدين يقف عائقاً فعلياً أمام الحياة بسبب فرض التصورات القيمية ضيقة النظر والإدراك , في حين أن حقائق الدين , وخصوصاً العبادات بالذات , يجب ألا تخضع لمنطق فرض القوة القانونية , حماية لها أولاً – على المدى الطويل – قبل أي شيء آخر .

جذور الوعي بالمرأة في الخطاب الديني


لو أخذنا قضية المرأة في الخطاب الديني السعودي , وكقضيةٍ تداخلت فيها عدة خيوط , وتعقدت بين عدة اتجاهات اجتماعية ودينية وسياسية , فإننا نجد أن المرأة في الوجدان الثقافي في الجزيرة العربية تُشكّل منذ القدم منطقةً حساسة في عمق العقل الاجتماعي , وحتى أزمنة قريبة  قبيل عهد التأسيس , فإننا نجد مثلاً أن عمليات الغزو التي كانت تتم بين القبائل كانت تمارس فيها كل أنواع السلب والقتل والهتك باستثناء الاقتراب من المرأة , بل إن القبيلة الغازية إن أرادت الغزو ولم تجد إلا النساء فإنها تعود أدراجها ولا تقترب منهنّ ! وهذه طبعاً من الأخلاقيات التي كانت منهجاً عند سكان الصحراء.. وكل ذلك يأتي ضمنياً في ما تعارف عليه المجتمع آنذاك من تعظيم لتلك المنطقة الحساسة جداً في الوجدان الجمعي .

 كل ذلك يعطينا التصور الواقعي – فيما أعتقد – لسبب صياغة وضع المرأة في الخطاب الديني وفق ما نلمسه اليوم من اجتهادات تتجاوز النص الديني لتلامس طبيعة الوجدان الاجتماعي وقد تنطلق منه أو تدور حوله في طبيعة استحضار المرأة في ذلك الخطاب , والتي تقوم على ذلك الإرث الثقافي في طريقة التعاطي مع حضورها في الحياة العامة اليوم وصياغة وضعها وتشكيل علاقتها بالحياة , حيث إن الممانعة والمحاذير الدينية التي يصوغها الخطاب الديني بشكل عام في موضوع المرأة ليس إلا شكلاً من أشكال التغلب الثقافي للعادات والتقاليد والتصورات والصورة النمطية للمرأة في الوجدان الاجتماعي عبر تاريخ طويل , كل ذلك قد فرض حضوره الملحّ على تشكيل صياغة الصورة النمطية في ذلك الخطاب الديني عن المرأة وقضاياها إلى تلك الدرجة التي غلبت فيها على النص الشرعي , وربما انحرفت به إلى السير في فلك تلك التصورات البيئية المحلية , وليس إلى أبعاده المقاصدية الحقيقية كما جاءت على حقيقتها وفلسفتها في النسخة الأولى من إسلام ما قبل المذاهب .

 الحقيقة أن كل ذلك ليس مهماً إلا حينما حصل الانقلاب فجأة في حياة الناس اليوم , واستجدت وقائع عصرية جديدة , بل ثورة عنيفة في الحياة وأسلوب العيش وأدوات التفكير وآلياته , كل ذلك أحدث شرخاً هائلاً بين تلك الثقافة التي لم تُبنَ أساساً على محددات دينية , وإنما على حضور الملحّات الثقافية البيئية , وبين واقع زمني مختلف وباذخ التغيير , فوقع الفرد الواحد في عدة صراعات حادة من أجل الهوية ومن أجل الحياة .

أنتج هذا الصراع فجوة هائلة بين حاجيات جديدة وبين محددات ترسخت عبر عقود طويلة , مما أنتج انفصاماً عند الفرد في توزيع خياراته بين حاجياته وبين تلك المحددات التي رسمت طريقة التعاطي مع الفكرة , وحسمت ترسيخها عبر الزمن . حتى جاءت تلك اللحظة التي أثمرت فيها تلك الأفكار تناقضاً مع الواقع الجديد ومتطلباته وحاجياته وظروفه الجديدة الأكثر إلحاحاً .

إن مما نأخذه على الفكرة الوهابية , وأيضاً على فكرة الصحوة الدينية في الثلاثين سنة الأخيرة , وكلاهما توصفان بأنهما ( تجديديتان ) لوضع ديني كان قائماً , أنهما لم تؤسسا لبناء أي دور تجديدي حقيقي يسهم في التنوير الشامل في موضوع المرأة بشكل أوسع , وتخليص الدين من عوالق التصورات البيئية الخاطئة حولها , بل ربما أسهمتا تاريخياً في تكريس تلك التصورات السلبية وتعزيزها أكثر من ذي قبل , برغم المدوّنة الفقهية التي تكشف عن حضور المرأة الطبيعي في عصر صدر الإسلام , وبطريقة تحرج الوعي الديني المحلّي الذي يسوّق للمجتمع صورة أخرى مختلفة , لكنها منسجمة مع الثقافة الاجتماعية ذات التاريخ والجذور العميقة في صياغة الوعي بالمرأة في الذهنية العامّة .


 لكن هذا يكشف لنا أيضاً حضور تلك التصورات البيئية المؤثرة على العقل الاجتماعي ومخرجاته بصورة مشابهة أيضاً على العقل الديني وآلياته , انسجاماً مع تلك التصورات , أو تصالحاً وتعاطفاً معها وإسهاماً أكثر في فلسفتها المبالغة في الممانعة والتحذير, دون أن يكون له أي دور تصحيحي مسؤول في حالة الحساسية تلك , برغم الشعار ( الرسالي ) الذي تسوّقه كلّ من الوهابية والصحوة على أنهما إصلاحيتان , إلا أن ذلك الشعار لم يصمد أمام سؤال المرأة وحضورها في الخطابين على السواء . أو محاولة فاعلة في تخليص الديني من البيئي , وبناء تصور سليم ربما يكون له أثر اليوم في رسم مخرج آمن لذلك التناقض والفجوة التي حصلت في مفاهيم الأجيال الجديدة , والانعكاسات الثقافية السلبية المتراكمة على تلك التصورات .

الحقيقة الغائبة في ( مكافحة ) الإلحاد !


كان قرار إنشاء مركز ( يقين ) لمكافحة الإلحاد مثار سخرية كلّ عاقل يعرف جيداً أنها خطوة ستساهم أساساً في إنتاج المزيد من الملحدين ؛ وذلك لأن هذا المركز يتبع أولاً للجامعة الإسلامية في المدينة , وثانياً لأن هذا القرار جاء بعد بيان وزارة الداخلية في مارس الماضي الذي وضع الإلحاد على رأس قائمة الأفكار والمناهج التي ستبدأ الدولة بمكافحتها ضمن قائمة ضمّت تنظيمات جهادية وأخرى تتبنّى الإسلام السياسي .

أولاً حين يُشرف على هكذا مركز لدراسات الإلحاد مؤسسةٌ ( وهابية ) كالجامعة الإسلامية , فإن كافة جهود هذا المركز ستبوء بالفشل الذريع ؛ وذلك لأن هذه المؤسسة لا تمتلك الأدوات الكافية ولا الأرضية المشتركة التي يمكن أن تقف عليها لمناقشة أصغر ملحد .

وثانياً حين يوضع الانتماء إلى منهج معيّن – أيّاً كان – في موضع الملاحقة القانونية , ثم تُوجّه الدعوة لأصحاب هذا المنهج للاستفادة من مركز يقدم لهم ( اليقين ) المطلوب , فهذه مفارقة أخرى تدعو للاستغراب والدهشة , ويثار سؤال كهذا : هل نحن نضحك على أنفسنا ؟

مما قرأته في موقع مركز يقين الذي لا يزال تحت الإنشاء والتكوين أن من الوسائل المتّبعة فيما يسمّى ( مواجهة ) الإلحاد : المطويات , والمحاضرات , والكتب ..إلخ ! وهنا لنا أن نضحك فعلاً , فهاهي أدوات ( مرحلة الصحوة ) نفسها التي كانت سبباً في الإلحاد ستكون هي السبيل في تلك ( المواجهة ) !

إن هناك حقيقة صادمة , ولها هي الأخرى مسار حديث خاص بها ويطول جداً , وهي أن المنظومة السلفية لا يمكن لها بأي وسيلة كانت مواجهة أي نوع من الخطابات الفكرية الحديثة , فضلاً عن مواجهة الخطاب الإلحادي الذي لا يقف مع الوعي السلفي على أي أرضية ممكنة للوقوف عليها لإجراء مناقشة حقيقية , فضلاً عن التباين الشديد في مسارات التفكير وأدواته , ومناخ الوعي بين السلفي والملحد , مما يجعل القول بإمكانية إجراء حوار أو مناقشة حقيقية ضرباً من العبث .

العقل السلفي الذي يحرّم الفلسفة والمنطق , وكان له تاريخ طويل من رفض العلوم الطبيعية  وتحريم القول بدوران الأرض لن يستطيع مطلقاً الوقوف أمام منطق مغاير تماماً , يتكلّم بالحقيقة العلمية وحدها , ويدفع بالبراهين العقلية التي يمتعض منها الوعي السلفي عادةً , ويفضّل عليها دائماً الاستشهاد بالأقوال والآثار والمرويات الاجتهادية التراثية , فأمام هكذا تباين في المنطقين كيف يمكن تصديق أي نوع من ( مكافحة ) أو مواجهة الإلحاد ؟ أو القدرة على الوقوف أمام المنطق الإلحادي ؟

كان بودي أن يكون المركز من أجل مراجعة وتصحيح التراث العقدي السلفي والمدوّنة الفقهية الحنبلية كموروثات كانت هي نفسها أحد أسباب بروز ظاهرة الإلحاد , ففي هذا الزمن الانقلابي الباذخ نحتاج فعليّاً إلى مراجعة القول بأن ( الله – تعالى – ينزل نزولاً حقيقياً إلى السماء الدنيا ) , حتى وإن أُردف ذلك القول – كالعادة – بعبارة : يليق بجلاله وعظمته , فإن كلمة ( حقيقي ) لم تدع مجالاً أصلاً لعبارة ( يليق بجلاله ) كونها حسمت شكل ذلك النزول الإلهي ورسمت آليته في الأذهان . فكيف يمكن لك إقناع ( مسلم ) درس الجغرافيا , فضلاً عن ملحد , بأن الله – تعالى – ينزل في وقت الثلث الأخير من الليل إلى السماء الدنيا نزولاً حقيقياً , في حين أن ( الثلث الأخير ) هذا هو لحظة زمنية مستمرّة على مدار الأربع والعشرين ساعة يومياً في كل نقطة من الأرض يمرّ عليها ذلك الثلث الأخير ؟

كان يمكن لهذا المركز أن يبدأ أولاً بمشروع تصالح مع جوهر وفلسفة بقية المذاهب الأخرى كالمعتزلة وغيرها , قبل أن يعلن أنه ( سيفتح صدره ) للملحدين ! لا يمكن أصلاً أن أصدق أن هناك أي قدرة على احتواء ملحد ما لم يكن هناك قدرة على الاحتواء أو التفاهم أو التعايش مع من هو دون ذلك الملحد بكثير !

إنها ستكون خطوة عظيمة لو أنشئ مركز حقيقي وفعّال لمشروع المراجعة والتصحيح والتقارب والتعايش , لكن المضيّ قُدماً في السير على نظرية ( النقاء العقدي ) بنرجسية مستمرّة لن يُنتج أبداً إلا ذات التعقيدات التي تتوالد باستمرار , ثمّ تصدمنا النتائج الواقعية على الأرض في كل مرة .


إنصافاً للقائمين على المركز , فقد أعجبني اعترافهم بأن نسبة الإلحاد ربما تتجاوز الـ 10 % , وهذا يعني أنها تجاوزت نتائج مركز غالوب نفسه الذي أجرى دراسة آواخر عام 2013 وتوصل إلى أن نسبة الإلحاد في المملكة بين 6% و 9% , في حين أن تونس وماليزيا ( العلمانيتين ) بلغت نسبة الإلحاد فيهما صفر % !

المصطلحات .. وذكاء الانسجام

المصطلحات .. وذكاء الانسجام


   لو رجعنا إلى ستينيات القرن الماضي , حين استضافت المملكة بعض رموز ( الإخوان المسلمون ) , وتأملنا كيف درجت الأفكار الإخوانية بسرعة , سنعرف أنه لم يكن في مقدور حركة كـ ( الإخوان المسلمون ) أن تنشأ بشكل علني في التربة السعودية لو بقيت محافظة على شعارها وحركيتها كحزب يسوّق نفسه على أنه حزب إسلامي يحمل الشعار ( وأعدّوا ) , كما في مصر وبقية البلدان العربية التي قد تسمح البيئات السياسية بفكرة التحزب حتى مع وجود الحظر الرسمي للحزب في تلك الدول .

حين قدم رموز ( الإخوان المسلمون ) إلى المملكة رأوا أن يتم تحسين صورة هذه ( المرجعية ) الفكرية اجتماعياً ودينياً أيضاً , فكان ابتكار مصطلح ( الصحوة ) , كشعار رسالي مخفف من حمولة الدلالة الحزبية للمصطلح , ويحمل قيمة دينية مستساغة في بيئة سلفية , ذات الخصومة التاريخية مع منهج الإخوان , وفي نفس الوقت لا يوحي المصطلح بأي سياق حزبي سياسي يمكن أن يشكّل قلقاً للسلطات .

    هذا الدرس التاريخي نفسه , لو استفاد منه الليبراليون وطرحوا مصطلحاً مخففاً من الغرابة والغموض , كالتنوير مثلاً ,  لكان لحراكهم فعالية أكبر في مجتمع لا يستسيغ بسهولة قبول الاصطلاحات ذات الجذور الغربية , أو القادمة من خارج الحدود بشكل عام . الإصرار على تسويق حِرفية المصطلحات كما هي ,  دون مراعاة التربة التي يراد استنباتها فيها سيجعل الفشل نهاية محتومة لتلك الأيديولوجية التي تندب حظها في كلّ مرّة مع حالة الوعي الجمعي , دون أن تتعلم هي نفسها أبجديات التحرك الاستراتيجي كما تفرضه جغرافية الواقع .

    الاصطلاحات مهمّة جداً , خصوصاً في بيئة سياسية تكون سلطتها مركزية , ففي مثل هذا الواقع السياسي والثقافي سيكون أي مصطلح دالّ على تحزّب صريح غير مأمون مستقبلاً , فأي سلطة سياسية في العالم الثالث يمكن لها الاستفادة من تيّار معين بشكل مرحلي , وبكل سهولة سيتحول هذا التيّار إلى خصم للسلطة مع تغيّر وتبدّل الظروف السياسية المختلفة .

وباعتقادي أن هذه الفطنة ( السياسية ) كانت حاضرة عند رموز الإخوان الأوائل في المملكة , وفيما يشبه ( التنبؤ ) بالمستقبل , تمّ الاستغناء عن الاصطلاح الدالّ على التجمّع الحاضن لوجودهم , وتبنّي مصطلح جديد ذي دلالة متملّصة من أي عبء سياسي أو ديني / عقدي , وهكذا تمّ ضرب إجراءين وقائيين بحجر واحد ( إجراء وقائي سياسي , وإجراء وقائي ديني ) , إضافة إلى المكسب الاجتماعي بتحقيق عنوان دعائي فعّال يصلح تسويقه في مجتمع لا يستسيغ فكرة التحزبات بالفطرة .

ليس مهمّاً المصطلح , بقدر ما يهمّ نشر جوهر ما يدعو إليه المصطلح , وعندي ليست العلمانية مهمّة كمصطلح , ولكن يهمّ عندي أن يتحقق فصل الاجتهادات المذهبية والآراء الفقهية الحنبلية عن الحياة العامة , فتحكيم محددات المذهب واجتهاداته وتصوراته لا يعني أنه تمّ تحكيم الشريعة الإسلامية بنجاح !

كما أنه لا يهمني اصطلاح الليبرالية , ولكن يهمني تحقيق الحريات والحقوق الفردية والاجتماعية , ومبادئ العدالة , تماماً كما لا تهمني الاشتراكية , ولكن يهمني أن يكون هناك قدر – ولو ضئيل – من التوزيع العادل للثروة , وتحقيق شيء من مبادئ المساواة .

هذه القيم السابقة – برأيي – أنها هي ( الصحوة ) الحقيقية لأي مجتمع , وهي المؤشر لمدى صحوة أو ( غفوة ) ذلك المجتمع في مستويات المادة النقاشية التي يتعاطاها أقطاب الصراع في هذا المجتمع , وليست تلك القيم التي تنحصر في تفاصيل نقاش لباس المرأة وحضورها في الحياة العامة , ومدى خطورة تلك المرأة على الأمن القومي والسلم الأهلي والمصير المرتقب !


وعلى كل حال , فالحديث عن نجاح التسويق الدلالي لأي مصطلح يجعلنا نعيد التأمل في عدة عناصر استراتيجية عملت على ذلك النجاح , وهذا ما يُفترض بتيار التنوير الآن بكل أطيافه إعادة تأمل ماضينا المنظور بكلّ ما فيه , واستخراج الدروس , خصوصاً وأننا لم نعد في مرحلة حادّة الانعطاف فحسب , بل تجاوزنا وأصبح المنعطف خلفنا فعلاً .

العنصر التنموي الغائب


لا يمكن لتنمية تسير بخطوات وثّابة دون تنمية موازية لها في مستوى الإنسان وتثقيفه وتوعيته بالمفاهيم الضرورية للسلوك الحضاري الذي يمكن أن يدعم تلك التنمية ويدفع بها ويساهم في نجاحها فعلياً , وهذه التنمية ( الإنسانية ) لا يمكن لها أن تنجح إذا كانت جزيئة تمارس بمحاذير صنعها العقل التقليدي ذو النظرة الأحادية .

لو أخذنا الفنون كأحد أهم الروافد في التنمية الإنسانية منذ فجر التاريخ , فإنه من المؤسف أن يكون العداء للفنون يتجاوز إلى حدّ ابتكار الأكاذيب التي تربط بين الفنون والأمراض النفسية , في حين أن الدراسات الرصينة تقول عكس ذلك تماماً , والمؤسف أكثر هو أن يصل ذلك الموقف الرافض للفنون إلى منع الأطفال الصغار من الرقص أو الاستمتاع بأغانيهم الطفولية في التلفاز , وأعتقد أنها جريمة بحق الطفولة , فالمرح والابتهاج والرقص هي أيقونات طفولية لابدّ أن يمارسها الطفل في مراحل حياته الأولى , وأي عملية قمع لتلك ( الفطرة ) الإنسانية في نفس الطفل سيكون لها أثرها الذي قد نشاهد بعض مخرجاته في سلوكيات المراهقين اليومية .

حين تُقمع تلك البهجة في نفس الطفل ستتجه مشاعره وتصوراته إلى الجفاف الإنساني تلقائياً ؛ كون أن المغذّي لتلك المادّة الإنسانية , والتي تعدّ الفنون أبرز أشكالها , سيستبدل تلقائياً بالبديل الغرائزي الذي لن يخضع لأية قيم رفيعة تُضفي اللمسات التهذيبية للمشاعر الإنسانية في تلك السنّ المبكرة , وبالتالي ستحلّ السلوكيات السيئة ذات الدافع الغرائزي فوراً في مساحة تلك الطاقة المتوثبة التي لا يمكن أن تبقى فارغة في تلك السنّ التي تتسم بالديناميكية الحركية والوجدانية السريعة وغير المستقرّة , والتي يمكن للفنون - كصيغة تربوية في سياق بناء الوعي وتنشئة السجايا - أن تعمل على ضبط تلك الغريزة منذ البداية بتأثيرها الملموس في تشريب الوجدان والمشاعر بالكثير من التوجيه الإنساني المطلوب نحو تصورات ومسالك أكثر إنسانية تمنع مستقبلاً من الكثير من الانحرافات .

إن النفس التي تحترف تذوّق الفنون لا يمكن لها مستقبلاً أن تنجرف نحو قيعان الإرهاب ومسالك العنف ؛ وذلك لأنها مملوءة بالتعمّق الإنساني والوجداني الذي يعمل على تهذيب الغرائز والنفور من البهيمية في كافة أشكالها التي منها بطبيعة الحال استساغة القتل وسفك الدماء , تلك البهيمية لن تهذبها المواعظ ولا المناظرات ولا ( برامج المناصحة ) بقدر ما ستهذبها الفنون – منذ البداية – وتضعها على طريق الجاهزية للتحضر والاستعداد للتنافس الأممي في عمارة الأرض وبناء الأوطان , وذلك ببناء الإنسان السويّ والمستقرّ الذي سيكون مستعداً لكل أشكال الإسهام الحضاري والتنموي .

التصالح مع الفنون ليست مهمّة مستحيلة , يكفي أن يكون هناك وعي بأهميتها في أذهان المسؤولين , وبالتالي العمل على تسهيل مهمّتها في الحياة , وبعد ذلك ستقوم هي بالدور المطلوب , أما عن التأثير المرجو للفنون , فيكفي أنها تؤسس عند الإنسان الوعي بتفاصيل النفس الإنسانية وتقلباتها من الفرح إلى الحزن إلى البهجة , وهذا بدوره يساعد الإنسان في فهم ذاته أكثر , مما يعينه على تقييم نفسه في كثير من الأوقات , بالإضافة إلى الوعي أيضاً بالمشاعر الكامنة التي تستنطقها تلك الفنون في كافة أشكالها وأنماطها كالرسم والموسيقى والمسرح والسينما والنحت , كما لا يخفى دورها التثقيفي والتوعوي في إيصال مختلف الرسائل الإيجابية المثمرة .

بلادنا تتجه فعلياً إلى مفاهيم اقتصاد المعرفة , وتسير بخطوات مشاهدة وواضحة وداعمة نحو هذه المفاهيم , لكني لا أرى أي مسير نحو التنموية الإنسانية التي تستثمر في بناء الإنسان وتهيئته للعصر ومفاهيمه في مستويات الاستعداد النفسي لاستيعاب قيم التحضر والسلوك الإنساني , وهذا ما يمكن للفنون أن تقوم به حين يتم فهم رسالتها الفلسفية الكبرى .

أخيراً , ومع كل هذا , أقدّر وأحترم المنطق الرافض للفنون ( تحت وقع التأثير الفقهي ) , لكني أطلب منه – برفق – أن يحترم هو أيضاً خيارات الآخرين , فدخول أحدهم إلى مقهى يقدّم مادّة موسيقية في تلفازه للزبائن , ثم التدخل بكل فظاظة بطلب إقفال صوت الموسيقى , فإن ذلك شكل من أشكال انعدام الذوق والاحترام وانتهاك لإرادة وخيارات آخرين كانوا جلوساً مستمتعين بوقتهم , وهذه الصورة اللاأخلاقية وغيرها من أشكال الوصاية هي ما نطلب - بكل رجاء - أن يتم التخلّص منها وإدراك بجاحتها .



نورٌ ينبثق من بين الرصاص



ما إن سقط الضحايا في جريمة اقتحام حسينية المصطفى بقرية الدالوة في الأحساء , وقبل أن تنجح قوات الأمن ( بسرعة باهرة ) في القبض على خمسة عشر مجرماً من المتورطين في الحادثة , حتى جاء الرد ( الشعبي ) أقوى تأثيراً وأشدّ وقعاً على دعاة التحريض الطائفي , في مشهد يسجّل لحظة درامية فاصلة في الوعي الشعبي الذي دائما ما تصدق مراهنتنا على حقيقته في مواجهة الغلو والتطرف .

سجلت مواقع التواصل الاجتماعي تآلفاً وتكاتفاً شعبياً غير مسبوق , مع أول شرارة حقيقية أرادت تلك القلوب الصدئة جرّنا وجرّ مستقبلنا إلى نيرانها , فكانت التحركات الشعبية والرسمية والمؤسسية أسرع من أن تمهل تلك الشرارة أن تشتعل , وجاءت المواقف المتضامنة كالرصاص في تلك القلوب , لتعلن بشكل أبهر العالم من حولنا : أن هذا الشعب عصيّ على الاختراق , وأن قدره الأبدي هو هذه الوحدة المقدسة , وأنه شعب قد فطن لمصيره , وعلم أن وحدة ترابه أغلى من أي خطاب مذهبي أو فكري أو عنصري .

يا لروعة اللحظة , ويا لبشاعة الجريمة , ضوء انبثق من بين الدماء والنيران , فغطّى كامل الظُلمة , وأضاء المستقبل , وجسّد لنا المصير , وضحايا أناروا لنا بدمائهم مجال الرؤية , فتنفسنا الصعداء , ورفعنا أكفّ الضراعة لهم بالرحمة والمغفرة , وتألمنا لهم بطعم الراحة , كما تتألم الثكلى لابنها الشهيد بطعم الفخر , شعور ينبثق من خلال شعور , ومستقبل يُضاء من خلال حدث , وأجزم أن هذا شعور أهاليهم أيضاً , تألموا وسط هذه الراحة التي أعقبت تعزيةً شاملة أمطرت على الأحساء بلسان شعب بأكمله , صورة الجسد الواحد , واليد الواحدة , والمصير الواحد المضاء الآن .

لقد آن الأوان أن ننفض عنّا غبار مرحلة سابقة , ونتعلم جيداً من خلال الدروس التي وقعت في دول الجوار ؛ كي نتأمل مآلات اللغة الحمقى , ومُخرجات المنطق الأحادي الأهوج , فنوصل الأجيال إلى مستقبل أكثر استقراراً وأمناً , ونحافظ على الأرض من تحت أرجلنا أن تتصدع فتميد بنا .

أعلمُ جيداً أن هناك فرق بين الخطاب المتورط في حادثة الدالوة , وهو الخطاب التكفيري القاعدي , وبين الخطاب الطائفي التقليدي الذي أدان ( ظاهرياً ) الحادثة ضمن جمهرة اللغة الاستنكارية الشاملة التي لم يستطع أن ينشز عنها وسط كل هذا التوجه نحو فكرة واحدة , نعم هناك فرق , ولكن آن الأوان أن نعي جيداً أن هذا يتغذى من ذاك , وأن أحدهما يمهّد الطريق للآخر , وأن الفتنة ليست فقط بالرصاص , وإنما الكلمة قد تكون طريقاً إلى الرصاص , وقد آن الأوان أن تُطفأ الكلمة المؤدية إلى الفتنة , وتُعلن الكلمة المؤدية إلى التعايش  وتبصّر الطريق الصحيح لمستقبل هادئ نلتفت فيه إلى تحديّات الهمّ النهضوي , ونتنافس فيه مع العالم للوثوب إلى قيم النهضة والتحضر , لا أن ننشغل بمعتقدات الآخرين , ونعود نجترّ تراثاً كان هو نفسه سبب النكسة , والدليل أنه أطاح بمجد الحضارة العربية ومزقها دويلات وطوائف متناحرة , بمجرد أن تركت المشتركات وعملت على توافه الاختلافات !

 وهكذا كانت نهضة أوروبا حين علّمتها الحروب الدينية كيف تتخلى عن انشغالات الدين ؛ للتفرغ للوثبة التي استطاعت بها امتلاك الأرض وما عليها , فهل مطلوب منّا نحن أن نبدأ من الصفر حتى نتعلم ؟

قبل سنوات غرقت جدة , فهبّ شبابٌ من نجران لمشاركة إخوتهم من شباب جدّة في المساعدات وعمليات الإغاثة , بجانب مشاركات متعددة من مناطق أخرى , واليوم تعود لنا الصورة ذاتها , تُجرح الأحساء , فتبادر مكّة وبقية المناطق بتقديم العزاء , وتطبيب الجرح .

شعبٌ كهذا .. متى سوف يتسنّى لدعاة الشحن الطائفي , وأصحاب المخططات المضمرة  أن يلملموا أداوتهم ويرحلوا بعيداً عنه ؟

·      خاتمة :
لا يفوتني أيضاً أن أعزّي أهالي رجال الأمن الذين سقطوا في المواجهة مع العناصر الإجرامية , داعياً لهم بالرحمة والغفران , ولذويهم بالصبر والسلوان .



نشر في نوفمبر 2014

في خدمة الظاهرة الصوتية


يسافر إلى دول الجوار من أجل مشاهدة فيلم جديد , ثم يعود إلى الوطن مؤيداً لمنظومة الممانعة في معارضتها للسينما ! هذا الانفصام له حقيقة أكبر من كونه مجرد تناقض ظاهر , إنه تضامن وانسجام مع الظاهرة الصوتية المعلنة , الظاهرة الأكثر أمناً وراحةً من إرهاق ذلك ( الجدل ) الذي يبحث في منطقيات الأشياء , وينقّب عن تساؤلاتٍ تغمد نصلها في بنية الثقافة السائدة .

في مقال سابق تحدثت عن أن عناصر هيئة الأمر بالمعروف يجوبون الأسواق للتأكد من إغلاق المحلات والمتاجر وقت الأذان , في حين أنهم يعلمون أن العاملين في تلك المحلات ربما أغلقوا على أنفسهم تلك المحلات دون الذهاب إلى الصلاة مع الجماعة , وقلت إن هذا الحرص من أعضاء هيئة الأمر بالمعروف على ( ظاهرة إغلاق المحلات وإيقاف الحياة ) أكثر من حرصهم على ( صلاة الفرد ) هو في سياق الرغبة في تحقيق مظاهر معلنة في إطار الشراكة مع الطرف السياسي في إدارة الحياة العامة في شقّها الديني , هذا الأداء يساعد على بقاء جذوة الظاهرة مشتعلة , وتنضح بالوهج الديني الذي يُعطي انطباعاً عن تحقيق ( مظاهر الدين ) في مستويات بعض القيم والتصورات الاجتهادية التي يُعتقد أنها أصول دينية , وأنها دلالة على نقاء المجتمع وتديّنه , كما أنها تقدم صورة دعائية يُراد لها أن تعكس شكل المظهر التديّني للمجتمع .

نجد أن هناك رغبة في تحقيق الظاهرة وإعلانها وحمايتها أكثر من الرغبة في تحقيق الفلسفة الروحية لتلك الظاهرة نفسها , كنوع من الإبقاء على حشد ( التظاهرة ) الثقافية الصاخبة , من أجل تعزيز وحماية ما يُتصور أنه ( خصوصية ) ستعمل تلك التظاهرة الثقافية على حمايتها من التآكل , أو من اختراق الزمن وتحدياته , فمعارضة السينما أصبحت دلالة على الحرص على الفضيلة , وتأييدها خلاف ذلك , وربما ترسّخ هذا المنطق حتى عند الكثيرين ممن يسافرون من أجل مشاهدة فيلم جديد , ثم يعودون ( صالحين ) يستنكرون السماح بافتتاح دور للسينما توفّر عليهم أموالهم التي يبذلونها من أجل تلك الهواية , وكل ذلك من أجل بقاء تلك الظاهرة ( التدينية ) أو التي توحي بالتديّن مشتعلةً , أو أعلى صوتاً , حتى وإن أضمرت في كواليسها ما لا يمكن تصديقه من التردّي الأخلاقي والقيمي . وقس على ذلك كافة القضايا الجدلية التي أصبحت علامات فارقة في إسقاطات ثنائية ( الخير والشر ) أو ( الحق والباطل ) على من هم مع تلك الظاهرة , ومن هم ضدها , وهكذا .

الأمر تحوّل إلى ما يشبه ( الشرعية ) التي تضامن عليها الوعي الجمعي المطمئن للحماية التي توفرها تلك الظاهرة , فالعبارة : ( افعل ما تريد , ولكن حافظ على صلاتك ) قد أصبحت كالرخصة الممنوحة لممارسة الملذات بشيء من راحة الضمير , فطالما أن هناك ( ظاهرة / صلاة جماعة / تأييد وتضامن مع الممانعة / محبة للدعاة والوعاظ / وكراهية للتغريب ) فيمكن للإنسان أن يظل في دائرة تلك ( الراحة والأمان ) الاجتماعي الذي يتقبل ذلك الفرد بكل مساوئه وفواحشه ولا إنسانيته , لكنه قد لا يتقبله إن كان ( جدلياً ) يعارض تلك القيم السابقة , أو شيئاً منها , حتى مع نظافته واستقامته خلقياً وإنسانياً , طالما أنه ليس مُذوّباً تماماً في جمهرة النغمة العامة .

هذا يجب أن يعيدنا إلى حقائق تمارس المساءلة لتلك الظواهر الصوتية بشيء من المحاكمة التي آن وقتها لنتبين ملامحنا في هذا الزمن :
 هل نفذت تلك الظواهر حقّاً إلى جوهر كينونتها الفلسفية في النفوس ؟
وهل حققت الإشباع الروحي والقيمي للإنسان المعاصر المتطّلع ؟
وهل نجحت أيضاً في تشريب التديّن أو القيم بشكل حاسم في وجدان الأجيال ؟

أعتقد أن تلك الأسئلة , وغيرها , قد تجعلنا – وهذا المفترض – نعيد صياغة تقديراتنا للوعي بالأشياء ومنطقياتها الأولية , ويحمّلنا مسؤولية إيصال ثقافة أكثر نضجاً لجيل قادم سيكون جيلاً عملياً في زمن عملي , ولا أتصور أن يظل وفياً لثقافة تمارس الازدواجية , وتطلب منه أن يبقى مُرهقاً بالتناقضات المتناسلة من بعضها .