بين مقولتي : الإسلام هو
الحل , والعلمانية هي الحل !
عقود من الزمن ظلّت النقاشات الجدلية حول ثنائية ( الإسلام –
العلمانية ) تتراكم دون أن تُنجب الحل المنشود ولو سفاحاً , بل ربما زادت من توسيع
هوة النقاش مع توسع دلالة الاصطلاحات التي تناسلت فيما بعد جرّاء ذلك الجدل ,
فظهرت دعوات إلى التفريق بين العَلمانية بفتح العين والعِلمانية بكسرها , والدعوة
إلى علمانية جزئية وأخرى كلية , كما تم توسيع دلالات الإسلامية إلى التفريق بين
الإسلامية والإسلاموية والإسلامية الحركية بطيفها المتنوع والذي يتخذ كل كيان من
كياناته صورة أخرى من الخطاب الجدلي المتضخم بالتفاصيل المولّدة لمنظومات جدلية لا
تنتهي .. وهكذا ظلت التجاذبات تأخذ شكلاً تضادياً دون أن يكون هناك منتج على
الصعيد الفلسفي يمكن أن يقدم لنا ما يمكن أن يكون حلاً أو مقترحاً لحلّ !!
لماذا إثارة هذا الجدل في كل مرة ؟؟
هذا الجدل لا نحتاج إلى إثارته كونه مثاراً أصلا ويصرخ بالإثارة
اليومية , وما يجري الآن في يوميات الربيع العربي من أحداث وتداعيات هنا وهناك ,
وما تحمله يوميات نقاشاتنا , وما يختمر في تصوراتنا عن المستقبل , كل ذلك إنما هو
صورة أخرى من جدلية اتخذت فيما يبدو صفة الأزلية في وعينا الشرقي بين قطبي تلك
الثنائية , وما تداعياتها السياسية والاقتصادية والفكرية إلا صورة من صور تلك
الجدلية , وكلما تقاعسنا في حسمها بأي شكل من الأشكال كلما اتسعت دائرة فراغها مع الزمن
, وربما تأخذ مساراً آخر مع الأجيال القادمة قد يكون مسار صراع دموي بين أبناء
الشعب الواحد , وذلك لأنه يأخذ الآن صفة الصراع بين مرجعية أفكار تتغذى على إرث من
المحددات المحفوظة , وبين مرحلة واقعية أخرى فرضتها ظروف جديدة وإحلال جديد لجملة
أفكار جديدة تلحّ هي الأخرى في فرض حضورها الضروري في السلوكيات اليومية للأفراد
وأفكارهم !
ربما ليس هنا موضع إيجاد ( الحلّ ) المنتظر , وهل هو مع الإسلام أو مع
العلمانية , إنها مهمة شاقة , وبحاجة إلى عقود أخرى من الزمن تتبلور فيه الكثير من
المفاهيم وتتحدد بشكل واضح المواضع الصريحة لقطبي تلك الثنائية , وبشكل لا يخضع
للتفسيرات الخاصة , لذا فأعتقد أن المهمة الأكثر إلحاحاً الآن هي تفسير ما هو
الإسلام الذي قد يكون هو الحل ؟ أو ما هي العلمانية التي يمكن أن تقدم الحل ؟
في مقالات سابقة دعوتُ إلى وجوب التفريق بين الإسلام وبين المذهب في
تناول ثنائية (الدين والعلمانية ) , فبعض الأفكار البسيطة التي قد لا تتقاطع مع
الدين لا من قريب ولا من بعيد حين يتناولها الوعي المذهبي الذي قد يكون في بعض
الأحيان نتاج ثقافة قُطْرية , فإنه سيحوّل
تلك الأفكار المذهبية / بيئية الدوافع إلى أيقونة مضخمة في التفريق بين من
يوصف بالمسلم أو نقيضه (العلماني / التغريبي / الليبرالي ) من وجهة النظر المذهبية
تلك , كما حصل من انقسام يكاد يكون دينياً في قضية ساذجة كقيادة المرأة للسيارة في
المملكة , فأصبحت معارضتها منطلقاً دينياً , وتأييدها خروجاً عن الدين ! بينما في
حقيقة الأمر لم تكن المعارضة سوى ( مذهبية ), والتأييد خروجاً عن تلك ( المذهبية )
بعض الشيء , ولم يكن خروجاً عن الدين بالكلية !
وفي أقطار عربية وإسلامية أخرى تأخذ صورة الصراع شكلا مختلفاً في
تحديد طبيعة الجدل بين المحافظة والتحديث , وذلك بحسب طبيعة مجال المناورة بين
القطبين , فالتحديثي أو من يوصف بـ ( التغريبي ) في بلد كالمملكة , هو نفسه يكاد
يكون محافظا أصولياً في بلد عربي آخر تختلف فيه طبيعة الأشياء والأفكار والتصورات
, ومن هنا لا يمكن أن يكون هناك تعريف محدد وثابت لماهية الدين أو العلمانية التي
تتطلع للتحديث , إلا بحسب مجال المناورة في كل بلد !
ومرة أخرى .. ما هو الإسلام الذي سيكون هو الحل ؟ وهل ما نراه في
محددات الإخوان المسلمين مثلاً , أو السلفيين , أو ولاية الفقيه في إيران , أو
طالبان في أفغانستان يمكن أن يكون كافياً لإعطاء تفسير عن تلك الصورة المقترحة
التي سيقدمها الإسلام كحل ؟
وأي صورة من الإسلام من بين كل تلك الصورالمتباينة بشكل صارخ يمكن أن
يقدّم كنسخة جاهزة للحل ؟
وأي علمانية أيضاً تلك التي يمكن أن تقدم الحل ؟ هل هي العلمانية
نفسها ما قبل أردوغان في تركيا ؟ هل هي علمانية الهند أو دول أفريقيا التي لم تقدم
لها شيئاً ملموساً في مسار التنمية ؟
وللتمثيل بصورة أخرى :
هل يكفي أن يكون الحاكم إسلامياً والدستور علمانياً كما في تركيا ؟ أو
أن يكون الدستور إسلامياً والحاكم علمانياً كما في بعض الدول العربية ؟
وإن كان لا يكفي لا هذا ولا ذاك , فهل يكفي أن ينقسم الأداء السياسي
إلى : إسلامي داخل الدولة في النظم والقوانين , وعلماني خارجها في السياسة
والاقتصاد والعلاقات الدولية ؟
وإن كان هذا بدوره سيؤثر على الأقليات , فهل يمكن أن يعاد تفسير
المحددات الإسلامية بشيء من التحديث أو ( اللبرلة ) الممكنة ؛ لتنسجم مع واقع زمني
يفرض حضوره , وتستجيب لدواعٍ سياسية لا مناص من وضع اعتباراتها في الأداء السياسي
!
الكثير والكثير من المفاهيم يجب أن يعاد ترتيبها المنطقي من أجل الوعي
بالمشكل الاصطلاحي الذي يمارس في كل مرحلة زمنية المزيد من التشويش على الفكرة
وآفاقها وينحرف بها عن الوصول إلى حل , في حين أن من المفترض أن يكون هذا الجدل
التراكمي قد أنضج أفكاراً أخرى تتجه بالمُدرك الذهني إلى مسارات صحيحة نحو تقديم
فكرة ناضجة يمكن أن تقدم كشعار أكثر عملية ومنطقية من الشعارات المعلّبة منذ قرن
من الزمن !!
في كل مرة أتناول حكاية العلمانية والإسلام أجدني أستدعي قصة الخليفة
عمر بن الخطاب حينما أوقف حدّ السرقة عام الرمادة هذا الإيقاف أو التعطيل يوصف
بأنه أداء سياسي قفز على محددات الدستور الديني استجابة لطارئ زمني ملحّ ,
وبالتالي حصلت عملية ( فصل النص الديني عن الأداء السياسي ), لو لم يقم به – ولن
يلام على ذلك – لكانت التداعيات الاجتماعية والسياسية أكبر وأخطر بكثير مما لو
أبقى على التفعيل المجرّد لتلك الحدود في وقت لا يخدم ( مقصودها ) الفلسفي الذي
جاء بنيّة حفظ الضرورة الإنسانية والاجتماعية !!