الاثنين، 18 نوفمبر 2013

الأخلاق بين الفلسفة الدينية والإنتاج المذهبي !!

     

     حين نتأمل في الحديث الكريم ( إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق ) سنجد أشياء عميقة جداً في تلك الكلمات القليلة . بل ستدفعنا تلك الروح التي تفوح من تلك الكلمات إلى السير باتجاه إنتاج الكثير من الدراسات والبحوث الدينية التي ستنقّب بشكل جاد عن ماهية الدين , وفلسفته , ورسالته التي جاءت – كما يقول الحديث – لإكمال المنظومة الأخلاقية الإنسانية .

     العرب في العصر الجاهلي كان لديهم أخلاقهم الإنسانية الرفيعة –مثل سائر الأمم – التي تنشأ الأخلاقيات فيها وتتنوع بحسب الثقافة الخاصة بكل أمة . إلا أن هناك مشتركات إنسانية عامة تشترك فيها كل الأمم , وهي التي جاء الدين ليعززها أو ( يتممها ) . وقد لا نحتاج إلى إيضاح الكثير من الأخلاقيات التي كانت عند العرب , وأن الدلالة المقصودة من اصطلاح ( الجاهلية ) خاصة بما كان يوصف به العرب من الجهل ( ضد الحِلم ) وليس الجهل ( ضد العلم ) حيث يقول عمرو بن كلثوم :
ألا لا يجهلنْ أحدٌ علينا *** فنجهلُ فوق جهل الجاهلينا
أي لا يغضب علينا أحد فنغضب فوق أي غضب !

    لنتجاوز الحديث عن ذلك العصر إلى عصر نعيشه الآن وتتخذ فيه الأخلاقيات مساراً آخر . ذلك المسار عبّدته ظروف المرحلة فحصلت الفجوة الهائلة بين الأخلاق العربية الأصيلة كما هي في العصر الجاهلي وعصر صدر الإسلام ,وبين فئات من المجتمع اليوم تحكمها تصورات مذهبية مؤدلجة ترى أنها تُحسن صنعاً بممارسة أخلاقياتها التي صاغها الارتهان المقيّد إلى الفكرة الواحدة والرأي الواحد المزهوّ بذاته والنافي لغيره .

     يهون كل شيء في هذه الحياة إلا أن تتحول الأخلاقيات السلبية إلى منهج مُشرعن يُغذّى باستمرار بغطاء ديني . فحين يلجأ الفرد إلى سوء الخلق أو الظلم أو رفض وطرد الآخر ( ولو كان ضيفاً يحل به ) اعتقاداً أنه ينطلق من دين يدين الله به , ففي هذه الحالة نحن أمام انحراف خطير ليس في الإنسانية المتحضرة والأخلاق العربية فحسب , بل في الدين نفسه , وتحوله إلى دين طارد يُلجئ أتباعه ويدفعهم إلى الخروج منه تحت وطأة قساوة هذا النفي والإقصاء وانعدام الأمن والتسامح !!

    ينطلق المتدين المتمذهب في عدائه لما حوله ومن حوله من منطلقات (مذهبية ) يتم إسقاطها على نصوص ومحددات دينية كبرى باعتساف وليّ لأعناق الفهم الطبيعي واللغوي منها , فنجده وبكل يسر وسهولة يسحتضر نصاً خاصاً بالمنافقين في عهد النبي ( ص ) مثلاً , وإسقاطه على الآخر المختلف معه , بكل سطحية وسذاجة . ثم تأتي مرحلة الوعي والتصديق بذلك الإسقاط , فيتصور ذلك المتدين أن هؤلاء ( المنافقين/ المخالفين له ولتصوراته ) يدسّون المؤامرات ويحيكون الدسائس , وهكذا إلى أن يصل إلى درجة لو قال أحد أولئك المختلفين معه ( لا إله إلا الله ) لتمّ تفسيرها بأسوأ ما يمكن ؛ انطلاقا من قاعدة راسخة بأن هؤلاء ( المخالفين ) لا يتحركون إلا ضده هو وحده , وأنهم يُسخّرون كافة حياتهم من أجله فقط !

    المرحلة الأخيرة التي يصل إليها الوعي المؤدلج بالمذهبية المنغلقة هي تطور ذلك الاختلاف والشك والقلق عند بعض المتدينين وجماهيرهم من ( الآخر المختلف ) إلى مُخرجات أخلاقية بالغة السوء , وهذا ما أقصده في هذه المقالة , وهو ما دفعني إلى الحديث عن تداعياتها المنفلتة  , باعتبارها من أهم مخرجات الحالة المذهبية السائدة , فحين نعود إلى حديث ( إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق ) سنجد كم قد حصل الانحراف الكبير عن الفلسفة الدينية الأصيلة كما جاءت في عذريتها الأولى في فترة إسلام ما قبل المذاهب , كذلك الانحراف عن المنظومة نفسها في الأخلاق والشيم الجاهلية قبل انبلاج نور الإسلام , فحصلت الخسارة المزدوجة بما يمكن أن يوصف بالمثل الشعبي ( لا بلح الشام ولا عنب اليمن ) , وكل ذلك بالتبرير المذهبي المؤدلج الذي شرعن بعض الأخلاقيات وأوهم أنها من أبواب الجهاد المأجور من أجل كلمة الله , في حين أن الله لا يحتاج إلى هذا الانحراف من أجل إثبات نفسه في هذه الدنيا , ولم يأتينا الإسلام بأمثلة مشابهة لنفس السلوكيات , فمن أين جاءت الجرأة في كل هذا الافتئات الخطير على منظومة القيم الدينية ؟ والتشويه – المقصود وغير المقصود – للفلسفة الدينية بهذا الشكل ؟

    هناك جذور أولى تتعلق بنشوء وتطور تلك الأخلاقيات , منها التربية الأولية التي يتم زرعها في الوجدان العام عبر التأجيج وبث الكراهية , فتتطور بدورها إلى ثقافة مستهلكة تقوم بدورها بإنتاج مختلف الأخلاقيات التي ربما يتبرأ بعض الوعاظ منها علناً لكنهم ينسون أو يتناسون أنها ثمار لتلك البذور التي تم بذرها ورعايتها إلى أن أصبحت ثمراً ناضجاً ( يُعجب الزرّاع نباته ) !!

     حتى نكون مجتمعاً صحياً تأخذ فيه الأخلاق تموضعها الراقي كما عند بقية الأمم المتحضرة علينا أن نقوم أولاً بمراجعة الثقافة والمحددات المشاعة انطلاقا من دوافع حرة تمليها الحالة الإنسانية والرغبة في الدخول إلى المجتمع العالمي بمؤهلات مناسبة تُعطي الصورة الصحيحة للإسلام الأول غير المؤدلج أو المخطوف مذهبياً . علينا أن نقوم بذلك قبل أن يحصل الانهيار وتبعاته , فأفكار العنف والإرهاب بدأ يتخلص منها الوعي العام الشامل في مجتمعنا بعد سلسلة ضربات هزّت العقل الجمعي العام , فتحرك تلقائيا في مواجهة تلك الأفكار والتبرؤ منها . لكنه تحركٌ متأخر ولم يكن بدوافع ذاتية حرة تستشعر الخطورة الكامنة منذ البداية . وهذا النوع من التحرك يكون غالباً في الوقت الضائع .

      علينا أن نُدرك أن من بين تلك الخطوات المهمة في إعادة صياغة وعينا الذي نريد أن نخرج به إلى العالم خطوات جريئة تتعلق بنقد التراث الذي أعقب فترة الإسلام الصافي , وما تبع تلك الفترة من انحرافات بالغة السوء عن مقاصد الفلسفة الدينية الصافية كما جاءت . تلك الخطوات تتطلب المزيد من الفصل بين ما هو ديني وما هو مذهبي تدخلت السياسات والمذاهب في تشكيله واتخذناه إلى اليوم ديناً ننطلق من مفاهيمه المصنوعة بشرياً .


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق