الأحد، 27 أكتوبر 2013

الممانعة الاجتماعية .. من الانفصام إلى الانسجام !!



المتأمل لحالة الممانعة الاجتماعية ضد أي منتج من شأنه إحداث أي تغيير في النسق المُعاش أو نسق التفكير سيجد أن تلك الممانعة تأخذ في البداية الشكل السلبي ضد أي تغيير ثم ما تلبث أن تبرد حرارتها تدريجيا لتعكس حركة سيرها فتتحول إلى موافقة تدخل في ذلك التغيير بكل استسلام !

( ويمكن تشبيه الأمر بما يحصل ليلة الدخلة بين العريس وعروسه من حالة تمنّع مبدئي تتبعها حالة من الاستسلام والانسجام ) .

الأمر ليس مستغرباً – اجتماعياً- كحقيقة اجتماعية أشار ابن خلدون في مقدمته إلى شيء منها في وصفه لنشوء الدول والحضارات بأنها ( تبدأ بعنصر العصبية التي تقوم عليها الدولة , ثم تختفي تلك العصبية أو تخبو جيلاً بعد جيل , أو كما وصفها بالذوبان ) . ونفس الأمر ينطبق على أي فكرة حديثة طارئة على المجتمع باعتبار تلك الأفكار نشوءاً جديداً تبدأ تلك العصبيات المتوالدة في كل جيل برفضه , ثم ما تلبث أن تتصالح معه أو تستسلم له , وهكذا في كل جديد .

لسنا بحاجة إلى المزيد من الشرح لأسباب الرفض المبدئي لأي جديد مادام أنه سنّة اجتماعية في كل زمن , إلا أن ما ينبغي الحديث عنه هو تتبع حالة ذلك الحراك الممانع في لجوئه للدين واستخدامه له كمعزّز له في تفعيل الممانعة وإعطائها البعد الشرعي المطلوب لتصبح ممانعة ( لا يأتيها الباطل ) رغم أنها بعد فترة سوف تنهزم ( طبيعياً ) !

من هنا الخطورة على الوعي الديني عند الأجيال , حين تكون الاجتهادات الفقهية النابعة من الطبيعة الاجتماعية والبيئية الرافضة للتغيير في موقف المهزوم دائماً , تكمن الخطورة في تراكم الوعي بالسلبية الدينية حين تتبنّى الرفض المطلق دائما وتقف حائطا أمام تطلعات أجيال تعيش واقعاً مختلفاً . تلك الأجيال نفسها هي التي ستقوم بعد ذلك بعملية كنس ذلك الرفض والإقدام على خوض وتبني مواقف أكثر انسجاماً مع تلك الفكرة المرفوضة بدل المواقف السابق منها , وسوف يدرك كل جيل لا يلتزم بالموقف المعارض أن مبدأ التدخل الديني في تلك الفكرة التي وجدوا ضرورتها في حياتهم كان فجّا وغير مناسب !!

الأمثلة كثيرة ووافرة , وربما حمل الوعي الاجتماعي الكثير منها ولا يزال , بدءاً من تحريم التلكس والبرق والسيكل ... إلى قيادة المرأة للسيارة , ومع كل منتج حياتي جديد من منتجات ذلك التغيير الحتمي والطبيعي لواقع الحياة سنجد أن رحلة الوعي الاجتماعي تأخذ مساراً درامايتكيا من الانفصام بينها وبين الجديد إلى الانسجام التام مع ذلك الجديد !!

ولهذا ففي الحالة الاجتماعية السعودية تأخذ الممانعة شكلاً خطيراً باتكائها الدائم على الدعم الديني , أو ربما كان هذا الداعم الديني ( المذهبي ) هو الموجّه الفاعل للوعي الاجتماعي والمبرمج لصيرورته وتحولاته , في مجتمع خرج للتو من حالة التخلف الحضاري ويتطلع بشكل جاد إلى التحديث من أجل حياته اليومية , وتشكل نسبة الشباب فيه أكثر من 70 % من مجموع السكان .. والخطورة هنا ليست في إعطاء حالة الرفض أو الممانعة ذلك الغطاء الشرعي في كل مرة , بل بما يمكن أن يترتب على ذلك في وعي النشء من تصورات تتراكم في كل مرة لتنتج صورة واحدة سلبية وهي : أن الدين ضد حياتكم اليومية !!

تلك النتيجة المترتبة يجدر أن تدفع بالمنظومة الدينية إلى إعادة النظر بشكل جاد  في آلية انفعالها اللحظي وموقفها المبدئي , من أي متغير . حيث لا يليق بها في كل مرة أن تظهر إما بشكل مأزوم أو مهزوم , وعليها التفاعل مع حتمية الواقع الاجتماعي الآخذ في التغيير كسنن إلهية كونية جعلت في كل مجتمع وكل زمن , بدءاً من زمن الصحابة نفسه الذي اتخذت فيه الكثير من المواقف وليس أدلّها الموقف الجريء للخليفة عمر بن الخطاب  من حدّ السرقة عام الرمادة , وكيف أقدم على إحداث ( تغيير ) تكتيكي كبير جداً في حجمه بتعطيل حدّ من الحدود نزولاً عند ملحّات ( الواقع ) الزمني آنذاك !!

إن المسألة لا تتطلب أن يُبعث ( مجدّد ) ديني في كل مرة , بقدر ما هي حاجة إلى آليات تفكير أكثر واقعية وأكثر تصالحاً مع النفس ومع الواقع ومع الحياة , آليات تفكير منطقية تُحسن استنباط المقصود الديني الصحيح المتوافق مع روح الشريعة السمحة والدفع بها كمحددات تكون فيما بعد هي المسؤولة عن طبيعة المواقف الانفعالية من كل تغيير جارف , وبشكل واعٍ , وليس تحكيم محددات المزاج البيئي أو المذهبي وإعطائها الغطاء الشرعي اللازم لمقاومة التغيير !

أخيراً .. مسألة الهوية , هل هي ثابتة أو متحركة ؟

حقيقة الخلط الحاصل هو أن هناك عدم إدراك لحقيقة الهوية من حيث كونها دائرة كبرى تحتوي على دوائر أصغر وتلك الدوائر الأصغر تحتوي بدورها على دوائر أكثر صغراً , وهكذا إلى أن يصل الإنسان إلى هويته الفردية المميزة له داخل أسرته أو عائلته الصغيرة !!

فأي الهويّات بالضبط هي التي تجب المحافظة عليها , وأي الهويات ثابتة وأيها متحركة مع الزمن ؟

حين يكون الوعي الديني بهكذا قدرة على استيعاب التفصيل المنطقي لأبسط الأشياء , فحينها سيكون التجديد الديني تلقائياً ويسير بشكل فاعل في كل مرة , ولن نحتاج إلى الأشخاص , كما هي حاجتنا إلى الأفكار وآليات إنتاجها , وقد لا نحتاج حتى إلى ( المهدي المنتظر ) لأن ذلك النجاح الديني والاجتماعي والحضاري سيتبعه النجاح السياسي بلا شك , كما هم الغرب الآن , ليسوا بحاجة إلى أي ( منقذ ) ليخلّصهم !

ومع ذلك , هم من يجب أن يدعون الله ليلاً ونهارا ( الله لا يغير علينا ) !!

السبت، 19 أكتوبر 2013

المرأة .. بين المذهب والبيئة !!


حين نأتي لتقييم مشكلة المرأة في الواقع الاجتماعي السعودي فيجب أن نكون أكثر شمولية وإدراكاً للواقع التاريخي لمشكلة المرأة في الجزيرة العربية كأبعاد وجذور أولية للحالة الأنثوية وكيف تشكّلت على مدى عقود وربما مئات السنين .

لنعود إلى البدايات , حيث ذلك الوضع الحساس جدا للمرأة والذي بدوره أثّر في تكوين وتطور الفكر السلفي الذي وجد بيئة خصبة في وسط الجزيرة العربية للتشابه السيكولوجي مع محددات السلفية ومزاجها المتشدد والمناسب لبيئة صحراويةٍ قاسية .. وفي ذات الوقت الذي جاءت فيه السلفية النجدية /الوهابية ، لتقتلع كل ما تقول إنه من مظاهر (الانحراف) عن الإسلام , إلا أنها لم تجرؤ على الاقتراب من مكانة المرأة في الوعي الاجتماعي أو محاولة تصحيح وضعها إلا بالمزيد من وضع الأغلال أكثر من ذي قبل كنوع من المجاراة للواقع الاجتماعي أو انطلاقاً من ذات المؤثر البيئي الذي أسهم في تشكيل النخبة السلفية النجدية فيما بعد , في دلالة واضحة على قوة ذلك المؤثر المرتبط بالحالة الأنثوية !!

حين بدأت آثار التأثير في بقية المناطق اتخذ وضع المرأة مكاناً لا تحسد عليه امرأة على وجه الأرض , فتضافرت عوامل اجتماعية /بيئية / نفسية مرتبطة بالنظرة إلى المرأة مع جهود دينية تشريعية أضفت على تلك العوامل المزيد من التأصيل والتشريع الديني حتى انعقد في الوجدان الجمعي العام فكرة أن المرأة يجب أن تنعزل وتغيب عن المشهد العام , وتحولت تلك الآراء إلى حقائق دينية مجرد لا تقبل الجدل , وقد نشأت أجيال متعاقبة على هذا التوارث النفسي من المرأة , حتى المرأة نفسها نشأت على هذا الواقع واستيقنت بأنها ( فتنة ) ستحرق الأخضر واليابس بمجرد خروجها على مسرح الحياة !

جاءت اللحظة الحرجة اقتصادياً .. واضطرت المرأة للخروج بعد سنوات من سيطرة مفاهيم الطفرة الاقتصادية في تشكيل الرؤية الدينية من المرأة وأن مكانها البيت يؤتى إليها بالرزق وهي جالسة في مكانها , وحصل الانتكاس الاقتصادي للكثير من الأسر بعد تآكل الطبقة الوسطى وارتفاع معدلات التضخم , فاضطرت المرأة للعودة إلى دورها التاريخي في مشاركة الرجل أعباء الحياة , فحصل الانفصام الحاد في عمق العقل الاجتماعي بين متطلبات حياة ملحّة وبين منطلقات نشأ وتربى عليها الجميع , وحصل الجدل كذلك وحصل اللغط , كل ذلك والمشكلة في أساسها أبسط من أن تكون مشكلة , إذْ تكفي عملية إصلاح ديني جاد تستهدف ترميم تلك العلاقة المشوهة بين الذكر والأنثى , ويتم إصلاح الخطاب الوعظي الذي أسهم في تشويه تلك العلاقة ومحاصرتها دائما في منطقة الخطر !!

السؤال الذي يتقافز الآن هو : من المسؤول إذاً عن وضع المرأة في هذا الموضع الذي أفرز كل هذه المشكلات , المذهب السلفي أم البيئة ؟؟

إنه ليس المذهب , ولا البيئة !!

لأن المذهب أساساً لم يُبن أو تقوم مرتكزاته على التعاطي مع المرأة بحد ذاتها أو استهداف العلاقة معها لا من قريب ولا من بعيد إلا ما يباشره من اجتهادات تأتي في سياقها الطبيعي حتى وإن كان منها القول بتغطية الوجه . لكنه لا يستهدف الحالة الأنثوية بذلك الشكل المهووس كما نراه الآن في طبيعة المطالبة الدينية الآن !

ولا البيئة .. لأن البيئة قبل الطفرة الاقتصادية كانت على طبيعتها التاريخية التي تشهد حضوراً طبيعيا للمرأة في كل مجالات الحياة في الأسواق والمراعي والمحلات في أكثر المناطق , برغم الحساسية الطبيعية لثقافة الجزيرة العربية من حضورالمرأة , لكنها ليست بحساسية ما بعد الطفرة وتشكيل الوعي الديني منها بعد ذلك !
والحقيقة أنه وإن كان لكل من المذهب والبيئية بعض التأثير في تكوين النظرة إلى المرأة , إلا أن هناك متورطون بشكل أكبر استثمروا المذهب والبيئة معاً في تشكيل ثقافة متشنجة تجاه المرأة لم تكن موجودة بشكلها الحالي , وأسهمت فيما بعد في إفراز العديد من المشكلات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية العميقة !!

إذاً من المسؤول ؟

المسؤول هو خطاب ديني/ وعظي  نشأ على تداعيات الطفرة الاقتصادية التي ساهمت في استغناء الكثير من الأسر عن قيم العمل والإنتاج والكفاح في سبيل الرزق مع تفجّر الوظائف الشاغرة والمريحة , إلى درجة استغناء الرجال عن تلك القيم فكيف بالنساء ؟
 من هنا ومن أجل السيطرة والتغلغل - بدأ هذا الخطاب في استثمار تلك اللحظة الفاصلة في تسويق نفسه في صورة المحافظ على قيم الفضيلة بالاتكاء على داعم واحد وهو عدم الحاجة إلى المرأة في الحياة العامة وبذلك يكون بيتها هو المكان الذي يجب أن تبقى فيه مع تسويق الكثير من الأفكار التي سببت فيما بعد أزمات متشعبة في تشكيل النظرة نحو العلاقة بين كل من الذكر والأنثى , وتصوير تلك العلاقة بشكل متكهرب دائماً وقد ساهم هذا التصوير في غرس مفاهيم الشك وانعدام الثقة بين الجنسين وتشويه العلاقة بينهما , ولن أبالغ إذا قلت : إن أكثر مشكلات التحرش الجنسي هو بسبب تلك التربية التي كهربت العلاقة بين الجنسين وشوهت طبيعتها ولم تكن للأسف تستهدف تعزيز وبناء الثقة والوازع الداخلي بقدر ما كانت تضخم وتهول أي تواجد للجنسين معاً على صعيد واحد في مكارثية لم تكن مسبوقة في التاريخ البشري حتى ابتكرت كلمة (الاختلاط ) رغم عدم تواجدها في الوعي الفقهي على مدى تاريخ الإسلام .. من هنا نشأ جيل مهووس وغير واثق ومنزوع الوازع الداخلي , ومن هنا أيضا كثر التحرش والخيانات الزوجية وانتشر ما يسمى بزنا المحارم , ومن ثم حصل الانهيار الأخلاقي في أركان المجتمع وهو آخذ في الانتشار وبقوة !!

وحين يأتي أي احتياج جاد للمرأة كقيادة السيارة مثلا أو العمل تبرز بشكل طبيعي تلك المشكلات الجدلية التي نشأت من تهويل النظرة إليها وإلى كينونتها , فيصبح الجدل اجتماعياً بين كتلتين , واحدة واقعة تحت تأثير تخدير ذلك الخطاب المتشنج من المرأة , وأخرى قد تجاوزت نوعاً ما ذلك الخطاب ومحدداته وبدأت تطرح احتياجاتها بشكل جاد وتطلب تفهمها !!

ما يطالب به البعض من وجوب الجرأة في قرار سياسي تجاه بعض القضايا هو أمر ليس كافياً .. لأن كل تلك القضايا هي ثمار لجذور أولية لا تزال تغذي كل القضايا والمشكلات الاجتماعية المعاشة .. إن الجرأة السياسية المطلوبة بإلحاح هي محاصرة الأفكار التي تغذي تلك القضايا عبر إنعاش الحالة الثقافية بالمزيد من المشاريع التثقيفية الجادة توازي ما حصل للمجتمع من سيطرة لخطاب الصحوة خلال ثلاثين سنة !


نعم صحيح أنه قد حصل تفكيك للكثير من الأفكار التي كانت مسيطرة , وحصل تقدم ثقافي ملحوظ في بنية التفكير الاجتماعي , لكنه يأتي في سياق عملية التمرحل الطبيعية التي نمرّ بها حالياً , وحتى لا نعود إلى الوراء يجب التقدم باتخاذ ما يمكنه إصلاح ما طرأ على الثقافة الاجتماعية من تشويش بتضافر الجهود الدينية الواعية والمخلصة لتخليص الدين مما لحق به من اجتهادات لم يعد لها مكانا وقبولاً اليوم .. وذلك حتى يعود للدين طعمه وجماله في قلوب الناشئة كي لا يكون عائقاً بينهم وبين واقع جديد يعيشونه بكل تفاصيله التي تتحكم في احتياجاتهم وتطلعاتهم !

الأربعاء، 2 أكتوبر 2013

تكبيرة الآلام -- شعر

خُذي من أدمعِ العين العصيّةْ * وردّي لي بقايا الآدميةْ

وقدّي الشعرَ من دُبرٍ وصبّي * غناءَ الجرح صبَّ الشاذليةْ

وخيطي من دُخَان الحزن لوناً * نديّاً كالصباحات النديّةْ

خذي منّي قصائدَ قتّلتني * لتصلبَني على جذع الرزيّةْ

أضاجعُ كلّ قافيةٍ صباحاً * وأرويها ؛ فتقتلني عشيّةْ

إذا ما سال من حزني سؤالٌ * سكبتُه في قوافٍ عسجديةْ

علمتُ بأن أقداري ستغفو*على أردافِ أسئلةٍ شجيةْ

تعبتُ من التصعْلُكِ في شعابٍ * رَمت بي فوق أشواك القضيةْ

تعبتُ من القصائد فامتطيها * وزفّيها لآمالٍ شهيّةْ

خذي منّي حياتي واتركيها * ترقرقُ في عيونٍ نرجسيّةْ


اكتملت في 
2007