المتأمل لحالة الممانعة الاجتماعية ضد أي منتج من شأنه إحداث أي تغيير
في النسق المُعاش أو نسق التفكير سيجد أن تلك الممانعة تأخذ في البداية الشكل
السلبي ضد أي تغيير ثم ما تلبث أن تبرد حرارتها تدريجيا لتعكس حركة سيرها فتتحول
إلى موافقة تدخل في ذلك التغيير بكل استسلام !
( ويمكن تشبيه الأمر بما يحصل ليلة الدخلة بين العريس وعروسه من حالة
تمنّع مبدئي تتبعها حالة من الاستسلام والانسجام ) .
الأمر ليس مستغرباً – اجتماعياً- كحقيقة اجتماعية أشار ابن خلدون في
مقدمته إلى شيء منها في وصفه لنشوء الدول والحضارات بأنها ( تبدأ بعنصر العصبية التي
تقوم عليها الدولة , ثم تختفي تلك العصبية أو تخبو جيلاً بعد جيل , أو كما وصفها
بالذوبان ) . ونفس الأمر ينطبق على أي فكرة حديثة طارئة على المجتمع باعتبار تلك
الأفكار نشوءاً جديداً تبدأ تلك العصبيات المتوالدة في كل جيل برفضه , ثم ما تلبث
أن تتصالح معه أو تستسلم له , وهكذا في كل جديد .
لسنا بحاجة إلى المزيد من الشرح لأسباب الرفض المبدئي لأي جديد مادام
أنه سنّة اجتماعية في كل زمن , إلا أن ما ينبغي الحديث عنه هو تتبع حالة ذلك
الحراك الممانع في لجوئه للدين واستخدامه له كمعزّز له في تفعيل الممانعة وإعطائها
البعد الشرعي المطلوب لتصبح ممانعة ( لا يأتيها الباطل ) رغم أنها بعد فترة سوف
تنهزم ( طبيعياً ) !
من هنا الخطورة على الوعي الديني عند الأجيال , حين تكون الاجتهادات
الفقهية النابعة من الطبيعة الاجتماعية والبيئية الرافضة للتغيير في موقف المهزوم
دائماً , تكمن الخطورة في تراكم الوعي بالسلبية الدينية حين تتبنّى الرفض المطلق دائما
وتقف حائطا أمام تطلعات أجيال تعيش واقعاً مختلفاً . تلك الأجيال نفسها هي التي
ستقوم بعد ذلك بعملية كنس ذلك الرفض والإقدام على خوض وتبني مواقف أكثر انسجاماً
مع تلك الفكرة المرفوضة بدل المواقف السابق منها , وسوف يدرك كل جيل لا يلتزم
بالموقف المعارض أن مبدأ التدخل الديني في تلك الفكرة التي وجدوا ضرورتها في
حياتهم كان فجّا وغير مناسب !!
الأمثلة كثيرة ووافرة , وربما حمل الوعي الاجتماعي الكثير منها ولا
يزال , بدءاً من تحريم التلكس والبرق والسيكل ... إلى قيادة المرأة للسيارة , ومع
كل منتج حياتي جديد من منتجات ذلك التغيير الحتمي والطبيعي لواقع الحياة سنجد أن
رحلة الوعي الاجتماعي تأخذ مساراً درامايتكيا من الانفصام بينها وبين الجديد إلى
الانسجام التام مع ذلك الجديد !!
ولهذا ففي الحالة الاجتماعية السعودية تأخذ الممانعة شكلاً خطيراً
باتكائها الدائم على الدعم الديني , أو ربما كان هذا الداعم الديني ( المذهبي ) هو
الموجّه الفاعل للوعي الاجتماعي والمبرمج لصيرورته وتحولاته , في مجتمع خرج للتو
من حالة التخلف الحضاري ويتطلع بشكل جاد إلى التحديث من أجل حياته اليومية , وتشكل
نسبة الشباب فيه أكثر من 70 % من مجموع السكان .. والخطورة هنا ليست في إعطاء حالة
الرفض أو الممانعة ذلك الغطاء الشرعي في كل مرة , بل بما يمكن أن يترتب على ذلك في
وعي النشء من تصورات تتراكم في كل مرة لتنتج صورة واحدة سلبية وهي : أن الدين ضد
حياتكم اليومية !!
تلك النتيجة المترتبة يجدر أن تدفع بالمنظومة الدينية إلى إعادة النظر
بشكل جاد في آلية انفعالها اللحظي وموقفها
المبدئي , من أي متغير . حيث لا يليق بها في كل مرة أن تظهر إما بشكل مأزوم أو
مهزوم , وعليها التفاعل مع حتمية الواقع الاجتماعي الآخذ في التغيير كسنن إلهية
كونية جعلت في كل مجتمع وكل زمن , بدءاً من زمن الصحابة نفسه الذي اتخذت فيه
الكثير من المواقف وليس أدلّها الموقف الجريء للخليفة عمر بن الخطاب من حدّ السرقة عام الرمادة , وكيف أقدم على
إحداث ( تغيير ) تكتيكي كبير جداً في حجمه بتعطيل حدّ من الحدود نزولاً عند ملحّات
( الواقع ) الزمني آنذاك !!
إن المسألة لا تتطلب أن يُبعث ( مجدّد ) ديني في كل مرة , بقدر ما هي حاجة
إلى آليات تفكير أكثر واقعية وأكثر تصالحاً مع النفس ومع الواقع ومع الحياة ,
آليات تفكير منطقية تُحسن استنباط المقصود الديني الصحيح المتوافق مع روح الشريعة
السمحة والدفع بها كمحددات تكون فيما بعد هي المسؤولة عن طبيعة المواقف الانفعالية
من كل تغيير جارف , وبشكل واعٍ , وليس تحكيم محددات المزاج البيئي أو المذهبي
وإعطائها الغطاء الشرعي اللازم لمقاومة التغيير !
أخيراً .. مسألة الهوية , هل هي ثابتة أو متحركة ؟
حقيقة الخلط الحاصل هو أن هناك عدم إدراك لحقيقة الهوية من حيث كونها
دائرة كبرى تحتوي على دوائر أصغر وتلك الدوائر الأصغر تحتوي بدورها على دوائر أكثر
صغراً , وهكذا إلى أن يصل الإنسان إلى هويته الفردية المميزة له داخل أسرته أو
عائلته الصغيرة !!
فأي الهويّات بالضبط هي التي تجب المحافظة عليها , وأي الهويات ثابتة
وأيها متحركة مع الزمن ؟
حين يكون الوعي الديني بهكذا قدرة على استيعاب التفصيل المنطقي لأبسط
الأشياء , فحينها سيكون التجديد الديني تلقائياً ويسير بشكل فاعل في كل مرة , ولن
نحتاج إلى الأشخاص , كما هي حاجتنا إلى الأفكار وآليات إنتاجها , وقد لا نحتاج حتى
إلى ( المهدي المنتظر ) لأن ذلك النجاح الديني والاجتماعي والحضاري سيتبعه النجاح
السياسي بلا شك , كما هم الغرب الآن , ليسوا بحاجة إلى أي ( منقذ ) ليخلّصهم !
ومع ذلك , هم من يجب أن يدعون الله ليلاً ونهارا ( الله لا يغير علينا
) !!