السبت، 27 ديسمبر 2014

الليبروفاشية .. ما وراء الدلالة


تزخر اللغة العامة هذه الأيام بمصطلح جديد أطلقه تيار الصحوة ضد خصومه ومنتقديه , مفسّراً لجملة من الأقوال والأفعال المضادة بأنها ( فاشية ) , ولم أتبيّن حتى هذه اللحظة هل منشأ هذا الاصطلاح  محلّي أم إقليمي , خصوصاً وأنه تزامن مع ما حصل في مصر بعد تاريخ 3 / 7 / 2013 من تنحية لحزب الإخوان عن الحكم , ولكن بصرف النظر عن منطقية الإسقاطات الدلالية في الحالة السعودية , فإن الأهم هو أن هذا المصطلح أتى في سياق النقاش السعودي الداخلي محمّلاً بعدّة إشارات , منها :

-       المصطلح يربط بين الخصوم وبين ( الفاشية ) وهي نظام ديكتاتوري يقوم على راديكالية سلطوية تفرض شكلها ( القومي أو الوطني ) , وحين تستخدم الصحوة تحديداً هذا الاصطلاح , فإن عناصرها يتناسون أنهم هم أنفسهم قد مارسوا تلك الفاشية – بحذافيرها – في يوم من الأيام ضد خصومهم , الفرق هو أن المادّة الصحوية دينية استخدمت السلطة الاجتماعية والاتكاء على الدعم السياسي في فترة من الزمن , بل إن خصومهم اليوم ومنتقديهم لم ينالوا ربع ما ناله الخطاب الصحوي من تمدد وتغلغل سمح له بممارسة أنواع من الإقصاء والنفي بلغت حدّ استعداء السلطات , وتضامن عناصر هذا التيار في كثير من المفاصل من أجل الإيقاع بالخصوم , والأمثلة كثيرة جداً , وتمتلئ بها ذاكرتنا المحلية .

تطالعنا الأبحاث التي تناولت دراسة مبادئ الفاشية , كما هي في إيطاليا مثلاً , بأنها قد جاءت على هذا النحو :

أ – النظام الفاشي فوق الجميع , ويحق له أن يتدخل في حياة الفرد الخاصة .
ب – وظيفة الفرد هي خدمة المجموع العام .
ج – عدم الاعتراف بالحريّات الفردية الخاصة .
د – التمدد على حساب كينونة الآخرين وحقهم في الوجود .
هـ - تعتقد الفاشية بأنه لا يمكن أن يكون هناك سلام دائم بين دول العالم .

والآن – وفق هذه المبادئ – ألم تكن الصحوة قد طبّقتها لعقود طويلة مع شركائهم في الوطن ؟

في الحقيقة أنني لا أتكلم الآن باسم تيار على حساب تيار آخر , وأعتقد أنني أحاول أن أمارس التحليل المحايد قدر المستطاع , ولا أنكر أن هناك سلوك مضاد تجاه الصحوة جعلها تشعر بشيء من هذا الشعور , ولكن في المقابل , ووفق حقائق تاريخية عشنا تفاصيلها , ولا تزال ذاكرتنا تحملها , فإن هناك ممارسة طويلة الأمد لأنواع من الفاشية الصحوية تجاه خصومهم , تطابقت تطابقاً مذهلاً مع مبادئ الفاشية الأصلية , وأعتقد أن ما يجري في مجتمعنا من مخاض إنما هو من قبيل سنّة التدافع المتداولة , وعلى الصحوة أن تراجع نفسها بهدوء وتأمل , وتعيد تقييم خطابها تجاه الشركاء في الوطن .

-       إشارة أخرى مهمّة , وهي أن مصطلح ( الليبروفاشية ) يكشف أن منظومة الصحوة تشعر في أعماقها الآن – وفي هذه اللحظة الزمنية تحديداً – بشعور المظلومية , وذلك أن شيئاً من الممارسة ( الفاشية ) تمارس ضدها كما تقول وتعتقد , وهذا الشعور لم يكن ليشعر به عناصر تيار الصحوة قبل عقود , حينما كان المجتمع والثقافة واللغة العامة أدوات حقيقية ترتهن لأدبيات الصحوة , وبالتالي فإن ربط الخطاب الناقد للصحوة بمفاهيم ( الفاشية ) سيعطي إشارة كاشفة عن أن الصحوة في شعورها بالمظلومية قد بدأت تشعر بالأفول أيضاً , فبرزت الحاجة إلى مواجهة الخطاب المضاد بتأويله سلوكاً فاشياً ؛ وذلك لاكتساب التعاطف الاجتماعي الذي بدأ هو الآخر في التقلّص والتراجع عن الدعم وتشكيل حاضنة اجتماعية كما كان في السابق , لهذا فمن المهم جداً التنبّه للمصطلحات وما تفرزه من دلالات عميقة تكشف استراتيجية التفكير اللحظي .

هذا التعليل الذي يقدمه الخطاب الصحوي في مواجهته للخطاب الناقد له غير كاف – مع مرور الزمن – لإيقاف تحلحل المبادئ والأدبيات الصحوية التي ظلّت زمناً طويلاً تسيطر على الفضاء العام بلا منافس , هناك سنن تاريخية لابد أن تأخذ مجراها الطبيعي , تماماً كما كانت الصحوة عبارة عن ( ظرف زمني ) جاء عقب ظرف القومية العربية , في سنّة تاريخية هي الأخرى , كظرف جاء محلّ ظرف , فإن انزياح ظرف الصحوة مع قادم الأيام , ولمصلحة ظرف ثقافي أكثر ملاءمة للمرحلة وتعقيداتها , وأكثر قدرة على طرح الحلول العملية والمناسبة لتطلعات جيل جديد , كل ذلك سيكون واقعاً يأتي في سياق التداول الطبيعي للأفكار والأيديولوجيات , وهذه سنن كونية ليست خاصة بالدول والحضارات , بل كل شيء تقريباً يشبه الشهاب الذي يسطع لبرهة ثم ينطفئ , ولن يكون هناك أي شيء ( باقٍ ويتمدد ) إطلاقاً , بل كما قال قس بن ساعدة : ( وكل ما هو آتٍ آت ) .


لستُ هنا لأطرح أمنيات , أو لأكتب بلُغةٍ شعرية عن التطلعات , ولستُ معنياً بزوال الأفكار أو تبديلها , بل أدعو إلى تبنّي مفاهيم المراجعة التاريخية الحرّة والشجاعة , والدخول في المرحلة بوعي المرحلة , لا بوعي المحددات التي كانت هي نفسها سبباً في المشكلات , فالخطاب الذي يمتلك القدرة على المراجعة والإصلاح الداخلي للّغة والأفكار المطروحة سيكون أقدر على الاستمرار من أي خطاب يتكلّس عند الأفكار الأولية , ولا يأخذ في حسبانه طبيعة المجتمعات التي تتغير وتتبدل مع كل دورة زمنية في مستوى الإدراك الثقافي والسلوكي .