الجمعة، 27 ديسمبر 2013

بكاء بـطرق الجبل



تعالي لنقنتَ هذا المساء ..
تعالي نهادنُ لفح العواصف يوما ..
قليلاً .. قليلاً ..
ونخلع عنّا رِداءاتِنا ..
ونسندُ أرواحنا للسذاجة ِ ..
ثم نغازلُ وجهَ السماء .. !!

***
ستخدعنا سكرةُ الشعر حتى الخَبلْ ..
ونولج في لذة الوصل ..
حتى الثمالةْ ..
فهاتِ النشيد .. هات النشيد
وزفّي إلى أذُن الفجر طرقَ الجبلْ..

***

وخيطي لي الطلحَ والسدرَ والمسحباني
ورائحةَ الأرض
وقت الصباح المعطّر
بالبنّ والهيل والزنجبيل
وخبز الدخن ..
وصبي على مسمعي من حكايا العناء ..
حكايا ..
عن الزرع والحصد والأولين ..
حكايا أناس
لكم صافحوا لطمات الشقاء ..
لكم صافحوا لطمات الشقاء ..
فنالوا بها الخبز , والتمر , والكبرياء .. !!

***

أعيدي من الأفق روح الفتى ..
ثمّ أسري بها , واعرجي
نحو تلك الجبال ..
وهزّي إليك بجذع الهوى ..
وانثري .. من بقايا البقايا ..
على ( خُتَنٍ ) في ( شِيال ) الصبايا ..
وشعرٍ يدغدغ سحر القرى ..!!


( الخُتن ) : جمع ( خُتنة ) وهي حزمة الريحان والكادي تضعه النساء وكذلك الرجال على رؤوسهم .

( شِيال ) : جمع ( شيلة ) وتعني الطرحة !

الاثنين، 23 ديسمبر 2013

بين جهيمان والصحوة .. نقد التناول التنويري


ربما من المؤسف أن تكون بيئة فكرية كالتي في المملكة , كثيفة التحولات والجدل دون أن يكون هناك جهد تدويني وطني يليق بهذه الحالة الضخمة والتي تتغذى يومياً بالجدل والاستقطابات منذ عقود !

إن جزءاً من الضعف التدويني في حالتنا السعودية يعود بلا شك إلى سياسة التعتيم الإعلامي الذي يكتنف أحداثنا ومجرياتنا الكبرى , كأحداث الحرم مثلاً في عام 1400هـ لو أخذناها كمثال . إلا أنه برمي المسؤولية دائماً على المنظومة الرقابية فإن ذلك من شأنه إخراج المهتمين المعنيين بطريقة فيها تزييف كبير للوعي والمسؤوليات , فالمثقف عليه مسؤولية كبيرة في ذلك التدوين . إلا أن المشكلة الكبرى , والتي اكتشفتها مؤخراً , ليست فقط في إحجام المعنيين والباحثين عن تدوين تلك الأحداث وتناولها , وإنما هناك أزمة حقيقية في فهمها أولاً , وفهم ظروفها وتداعياتها وحيثياتها التفصيلية التي تفسر الكثير من ظروف أدائها !

حين نأتي إلى مثال حادثة الحرم , نرى الكثير من دعاة التنوير والإصلاح الفكري يربطون بشكل متعسف بين حادثة الحرم وبين الصحوة , وأن للاثنتين علاقة عضوية ببعضهما أو أن إحداهما نتيجة للأخرى . وهذا منافٍ للحقيقة التاريخية!

لم تكن مجموعة جهيمان العتيبي التي اقتحمت الحرم مطلع القرن الخامس عشر الهجري إلا نتاجاً للجماعة السلفية المحتسبة التي نشأت في المدينة بهدف العودة إلى السلفية ( الصافية )  من وجهة نظرهم , وكانت تستهدف الحد من الانتشار الذي تحقق لتيار الصحوة الذي بدأ في النشاط من منتصف الستينيات والذي يعتبر تمثيلاً لوجود الإخوان المسلمين ولاحقاً السرورين , الجماعتين الأنشط دينياً في المملكة والتي انبثقت إحداهما عن الأخرى كما هو معروف . فكان تركيز الجماعة السلفية المحتسبة – في الأساس – النيل من رمزية شيوخ الصحوة عبر تأكيدها على ضعفهم الشرعي وانحراف مشروعهم عن الاشتغال بالعقيدة إلى السياسة . مستشهدين بمقولة شهيرة للشيخ الألباني والذي يعتبر الأب الروحي للجماعة : من السياسة ترك السياسة !

حصلت بعض الأحداث غير المهمة في موضوعنا هذا , إلا أنه وبعد عدة انشقاقات في صفوف الجماعة السلفية المحتسبة, برز تيار أكثر عنفاً بقيادة جهيمان العتيبي الذي كان يمتلك كاريزما استطاعت جذب العشرات من الرفاق داخل الجماعة . ثم بعد انقطاع مجموعة جهيمان عن بقية الجماعة وهيامهم في الصحارى استعداداً لعمليتهم الموعودة , حصل بعض التشظي في الجماعة , إلا أنها بقيت كأفراد محافظين على البنية الأيديولوجية تجاه الموقف الثابت من تيار الصحوة ورموزها . بعض تلك المجموعات ستتحول فيما بعد إلى تيار مناقض تماماً لمجموعة جهيمان , وهو التيار الذي عرف بعد ذلك بالجامية !!

حصلت حادثة الحرم وانتهت , إلا أن ما بدأ للتوّ هو أنه خلا الجوّ لتيار الصحوة , وربما حصل أن لجأ السياسي إليها كونها أقدر على ضبط الكوادر الشبابية المنتمية إليها . إلا أنه وبعد زوال سنوات العسل بين الصحوة والسياسي , وخصوصا مع أحداث حرب الخليج , برزت فجأة الجماعة السلفية المحتسبة ولكن في ثوب جديد سمي آنذاك بالجامية أو المداخلة .

لم يكن يتأتى للتيار الجامي أن يتشكل لولا تلك البنية الموجودة والمتمثلة في بقايا عناصر وأدبيات الجماعة السلفية المحتسبة التي هي بدورها كانت ردّة فعل للوجود الحركي الإسلامي المتمثل في تيار الصحوة . ورغم أنها مفارقة عجيبة أن تنشطر الجماعة السلفية إلى شطرين متباينين بدرجة صارخة ( مجموعة جهيمان , وتيار الجامية ) إلا أن الأكثر عجباً هو الكثير من المداولات الفكرية التي لا تفرق –تاريخيا- بين مكونات الطيف الديني في السعودية وترى أنه كتلة واحدة , بينما الواقع الذي يحدث فعليا في أعماق تلك المنظومة الدينية يشي بالاختلافات العميقة والجوهرية التي من المهم فهمها أثناء تناول الواقع الديني والفكري في الحالة السعودية . فالدلالات المتعددة لكل من ( الوهابية , والصحوة , والسلفية ) ينبغي أن تؤخذ كل واحدة منها في مجالها الأيديولوجي المعتبر والمنفصل تماما عن الأخرى , بمعنى أنه من المستحيل أن يتم الجمع بين الوهابية مثلاً والصحوة في سياق واحد بينما كل واحدة لها مجال أيديولوجي تتبعه وتهتم به , وربما حصل بعض التصادم غير المعلن , برغم الحاضنة المرجعية ( السلفية ) لكل من المكونين السابقين !

وإذا كان علينا القول إننا نعيش حقاً في ظل تحولات عميقة في المشهد السعودي , فمن الجدير بالقول إنه علينا فهم ظروفنا التاريخية بشكل أكثر عمقاً وتحريّاً للدقة التاريخية والواقعية من أجل الوصول لحقيقة بنيوية يمكن أن تؤصل منطقها الداعم لفهم واقع التحول الذي يجري بعنف .

المراجع :
-       زمن الصحوة , ستيفان لاكروا
-       حتى لا يعود جهيمان , توماس هيغهامر
-        مقابلة مع ناصر الحزيمي على اليوتيوب , أحد رفاق جهيمان .


السبت، 14 ديسمبر 2013

الفدرالية الإدارية / المدن الصناعية نموذجاً ..



من واقع معايشتي بحكم العمل لمدينة كـينبع الصناعية أجدها كمثال لتجربة المدن الصناعية في بلادنا مثالاً ناجحاً على الأصعدة التنموية والإدارية بواسطة سرّ يميز نجاح تلك التجربة وهو ( الفدرالية الإدارية ) النوعية التي تحكم مفاهيم الإدارة ذات الطابع المستقل بشكل كامل عن باقي وزارات الدولة .

في مدينة ينبع الصناعية نجد أن مستوى النظافة , والبنية التحتية , , والتعليم , والصحة , وكذلك مستوى الرقابة الفاعلة على المحلات التجارية والمطاعم وحوانيت الحلاقة ,وأيضا مستوى الجودة في الطرق , والتشجير , وكافة الفعاليات الترفيهية والأسرية والثقافية , كل ذلك يأتي بشكل أكثر إبهاراً وإتقاناً وجودة في أدائه من بقية الأداء الإداري ذاته في كافة تلك المجالات في بقية المحافظات والمدن ومنها المدن الكبرى أيضاً .

تلك الاستقلالية عن النسق البيروقراطي الحكومي التقليدي أعطى كل ذلك النجاح والتميز في إدارة مستوى الخدمات في تلك المدينة وكذلك أختها الجبيل الصناعية , في حين أننا نجد أن مدننا الكبرى تفتقد إلى ذلك المستوى من الجودة الإدارية بسبب عوامل بيروقراطية تضع الأداء الإداري في صورة كسيحة بسبب تلك المنظومة التقليدية الحكومية التي لا أفهم إلى الآن لماذا الإصرار على إبقائها مرجعية في زمن كثيف التحولات والتوسع العمراني والبشري !!

صورة أخرى من الأداء الإداري في المدن الصناعية ساهم في إنجاح المستوى الخدمي المقدم , وهو صغر المساحة الإدارية المستهدفة , في حين أن الطاقة الإدارية التي تقود تلك الخدمات متلائمة بشكل مناسب مع تلك المساحة , وهذا عنصر مهم للنجاح , قد وجدته في بعض المحافظات الصغيرة التي رأيت فيها نجاحاً نوعياً لا بأس به في الضبط الصحي والخدمي والتعليمي بسبب صغر تلك المحافظات وتركيز الطاقة الإدارية على تلك المساحة المحصورة , بينما في المدن الكبرى المترامية نجد التشتت في الطاقة الضبطية والإدارية والخدمية  . لكن ذلك النجاح النوعي للطاقة الضبطية الإدارية لتلك المحافظات الصغيرة يعود إلى فعالية تلك الإدارات المتفاوتة أداءً في كل محافظة , وليس إلى ذات النظام المحرّك , والذي لا يزال يعاني من الثغرات الكثيرة التي من أهمها بطء الفعالية الإدارية في التجاوب مع الحالة أو المشكلة الخدمية القائمة .

إن تلك الاستقلالية في طريقة إدارة المدن الصناعية وفي كافة مجالاتها الخدمية والصحية والتعليمية والإدارية قد أنتجت لنا مدناً صحية وناجحة ومثالية للحياة كالجبيل وينبع وأخرى يبشر بها المستقبل المنظور إن هي اعتمدت على ذات المبدأ ( الفيدرالي الإداري ) المستقل بشكل عام عن المنظومة الحكومية التي يبدو أنها لا تستطيع الفكاك عن البيروقراطية وعاجزة عن خوض أي خطوة تصحيحية لمواكبة زمن متغير !!

ولهذا , فربما يجدر التفكير في قضية أخرى – كسباً للوقت – بحيث لا تضيع الجهود في بناء نظام آخر على أنقاض النظام البيروقراطي الحكومي الحالي , والذي – كالعادة – سيأتي خديجاً ومشوهاً وربما يضر أكثر مما ينفع . فأقول : لم لا نجرب استنساخ تجربة ( الفدرلة ) الإدارية بحيث تستقل إدارة المحافظات والمدن في مجالاتها الخدمية المتنوعة عن المركز / العاصمة / الوزارة / المرجعية الإدارية ؛ وذلك من أجل تحريك التعثر الحاصل في المشاريع الخدمية والتنموية العالقة !!

لا تحتاج المسألة إلى ما يشبه المعجزة لتحقيق ذلك , فنظام الفدرلة موجود بشكل عريق في كل دول العالم , وبدون الحاجة إلى إثارة افتراضات الفوبيا الانفصالية وأمراض الخوف من شيء لا وجود له في وجدان أي إنسان ينتمي لهذا الكيان لا همّ له سوى مستوى مقبول ومُرضٍ من الخدمات يليق بمستوى بلد يعيش فيه وينتمي إليه .

إن من شأن تلك الفدرلة الإدارية أن تحل الكثير من الإشكالات بشرط وضع إجراءات مسبقة , وذلك بغربلة الأنظمة واللوائح التي من شأنها أن تتيح سوء الاستغلال للموقع الوظيفي , فالنجاح الإداري والخدمي الذي تحقق في مدينتي ينبع والجبيل الصناعيتين لم يكن لولا وجود أنظمة أُحسن بناؤها منذ البداية لتكون فاعلة في تحصين الأداء الإداري من كل ما يمكن أن يتيح مجالاً لسوء الاستغلال الوظيفي , وكذلك النظام نفسه في هاتين المدينتين بخصائصه المميزة يعمل على تربية موظفيه على الجدية والإتقان والإبداع , وليس كالنظام البيروقراطي الحكومي الذي يساوي بين الموظف المثابر وغير المثابر عبر العلاوة السنوية الثابتة للجميع كحق مكتسب تم تعزيزه كمفهوم في وعي الموظف الحكومي التقليدي , بينما لا نجد هذا المعيار عند موظفي الإدارات في المدن الصناعية الأقرب نظامهم إلى نظام الشركات التي تُخضع علاوات موظفيها السنوية لمعايير الجودة والخلق والإبداع وبشروط صارمة وأحياناً قاسية . وحتى في التعليم الذي ينفصل إدارياً ومالياً عن وزارة التربية والتعليم خاضع هو الآخر لذات النظام الذي يضع معايير التميز والإبداع كشرط لنوع العلاوة السنوية ومستواها للمعلمين العاملين في الحقل التعليمي في هاتين المدينتين !!


أعتقد أنه حلّ وقتي فاعل , قبل التفكير في بناء أنظمة حديثة قد تستغرق وقتاً طويلاً يكون به التأخر أكثر وأكثر في المسيرة التنموية في مدننا , خصوصاً وأن الوقت لا يسمح بالمزيد من التأخر , فالتنافس الأممي في أوج شراسته للحاق بالركب العالمي , ولا يجدر أبداً بدولة تنتمي لمجموعة دول العشرين أن تقعد أكثر وأكثر عن الفعالية النهضوية من أجل أنظمة ثبت عقمها الإداري وباتت الحاجة إلى استبدالها أكثر إلحاحاً . ومن المهم أيضا التأكيد على أن مبدأ الفدرلة الإدارية لا تعني بالضرورة ذات الفدرلة في القوانين والأحكام التشريعية العامة في كل مدينة . فالأمر مقتصر عندي على انتشال الواقع الإداري من أزمته عبر تلك الفدرلة (الإدارية ) تحديداً وليس تعميق الفجوة الثقافية والاجتماعية بين كل مدينة أو منطقة وأخرى !

الخميس، 28 نوفمبر 2013

الشبك والشبوك .. في الوجدان السعودي !!

( الشبك ) ذلك السياج الحديدي الذي ارتبط في الوجدان السعودي بالإقطاعية ,هو في الحقيقة أكبر من كونه ظاهرة طبقيّة تقليدية بين ( بروليتاريا وبرجوازية ) . إنه سياج ثقافي أشمل .. يتجاوز موقعه في الثقافة الاقتصادية إلى كونه أيقونة بارزة من أيقونات الحالة السعودية التي تتميز بـمكارثية ( الخصوصية ) التي هي بذاتها تصنع سياجها الخاص بها و ( شبوكها ) المتعددة بينها وبين العالم !!

نلاحظ أن ( الشبك ) هو ثقافة أشمل من ثقافة طبقة بورجوازية تقليدية تعمل من منطلق اقتصادي إقطاعي , بل هو – في بعض الأحيان – منطقة لجوء عقلية لمواجهة تصرفات معينة , كحالة من حالات الحلول السلبية , فالمواقع التراثية مثلا , نجد أنها تسيّج بذلك السياج القبيح بدعوى منع الأيدي العابثة , هذا بدل تخصيص حارس أو حرّاس على ذلك الموقع وعمال صيانة مستمرين في موقعهم , وبذلك تُفتح بيوت وأسر جديدة , لكننا لا نجد إلا السياج كحلّ مختصر وسهل , ويتناسب مع أدوات العقل المحلّي الذي يلجأ دائما إلى منطقة ( الباب اللي يجيك منه ريح سدّه واستريح ) . وهي حالة أخرى من حالات ( الشبك ) المنصوب حول العقل . ومؤسف أنك لا تجد في أي دولة في العالم أن المواقع الأثرية ( تُشبّك ) إلا في بلد تميّز بتلك الحالة ( الشبوكية ) الفريدة !!

مؤسف أن موقعاً أثرياً .. كان له ما كان في الوجدان الثقافي والتاريخي للأرض أن يتحول إلى منظر قبيح بفعل ذلك السياج البشع .. ولماذا السياج ؟ وهل نحن فعلاً في غابة اجتماعية لا يردع الناس فيها أي وازع حضاري إلى هذه الدرجة ؟

ولنفترض .. فهل الحل إغلاق هذا الموقع نهائياً في وجه كل ابن لهذه الأرض يريد أن يستنشق شيئاً من عبق التاريخ في أي وقت شاء ؟

( الشبك ) أيضاً هو حالة عقلية , والمجتمع الذي يطالب بإزالة ( الشبوك ) ,عليه أن يقتلع ( شبوكه ) التي ينصبها بنفسه حول عقله ورؤيته ونظرته للحياة , واندماجه مع الحياة والعالم من حوله !

( الشبك ) أيضا هو حالة من حالات التربية الموجّهة في مؤسسات التربية والتي تعتبر الأسرة في البيت إحدى تلك المؤسسات , فالمربي أو الواعظ أو المعلم الذي يتخيل أنه سوف يصنع ( شبكاً ) على العقول والتصرفات إنما هو واهم ولا يعي طبيعة الحياة التي لا يمكن إغلاقها أو ( تشبيكها ) , وأن الحل الأمثل هو تعزيز البناء الذاتي للفرد ثم فتح كل ( الشبوك ) حتى تكون المناعة أقوى !!

و( الشبك ) أيضاً هو حالة من حالات انغلاق الأيديولوجية حين تحكم على نفسها بالانتحار بذلك التقوقع وعدم المرونة في التفاعل مع الواقع والآخرين .. وما ينطبق على الأيديولوجيات ينطبق على الأشخاص , فكلما أقام الإنسان حول عقله بعض ( الشبوك ) كلما ساهمت في حجب الصورة الحقيقية عنه وعن طريقة تقييمه للأشياء ورؤيته للحياة !!   


أخيرا .. متى الخلاص من كل ( شبك ) ؟ سؤال لن يحلّه فرض رسوم على الأراضي البيضاء المحتجزة , بل يحتاج إلى إرادة أمة حيّة , تريد حقاً النهوض و ( كسر الشبوك ) !

السبت، 23 نوفمبر 2013

النسخة المحرّفة من ( الخصوصية ) !!



    لا أعتقد أن تيار الممانعة الديني لا يرى ولا يعلم بوجود ظاهرة الفساد الأخلاقي المهول في كل مدينة وقرية ,وإن كان لا يعلم فتلك مصيبة أخرى . إلا أنه – ومع علمه أو بدون علمه – لا يرى أي أخطار تحدق ببنية الأسرة أو التكوين التربوي للفرد الواحد , وبشكل يهدد حتى المستقبل النهضوي للوطن , لا يرى أياً من تلك الأخطار إلا تلك الأخطار المتخيلة من وجهة نظره من خلال إقامة الملتقيات والندوات الثقافية التي هي بدورها تشتكي قلة زوارها والمهتمين بها . وذلك بدعوى أن تلك الأنشطة ( تغريبية , ليبرالية , علمانية ..إلخ ) أي أن الخطورة الكامنة في ملتقى ثقافي سيكون أشد من حفلات الشذوذ الجنسي المنظمة بشكل علني في الفيس بوك والتويتر في كل منطقة !!

    هذا هو إذاً مجتمع الفضيلة و (الخصوصية ) . أهم شيء يميز خصوصيته أن أي انحراف سلوكي لا بأس به أن يكون في الخفاء لا العلن الظاهر .. تهمّه كثيراً ( الظاهرة ) ويحرص على أن تكون تلك الظاهرة هي العنوان الرئيس له ولا يهم شكل ( الباطن ) بعد أن يتم تحقيق الإشباع المعنوي في تضخيم تلك ( الخصوصية ) . وبذلك نحقق تلك المقولة التي ترى بأننا أشبه بمن يخبئ القاذورات تحت سجادته . هكذا إذاً تتعامل النظرة الممانعة مع واقعها الذي توزع فيه أفكارها بشكل يدعو إلى الحيرة في كيفية تقييم تلك المخرجات الفكرية لمنظومة الممانعة , وكيفية التعامل معها , ودراستها , وتحليلها !!

   إنه أمرُ يدعو للشفقة والرثاء لحالة التزييف الحاصلة في الوعي والتفكير أن يتمّ التنادي لمنع إقامة ملتقى إعلامي في منطقة من المناطق حرمت التنمية لعقود ,دون أن يتم أداء نفس الدور في التنادي لمنع مختلف أشكال الفساد الإداري والأخلاقي الذي يستهدف مستقبل الأجيال القادمة ويستهلك منظومتنا الاقتصادية والمعرفية والقيمية الحالية !!

       إن الأسى والأسف يبلغان ذورتهما عندما نرى كل هذا الانحراف عن المنطق والعقل والضمير - وبشكل لا يُفسر إلا بأنه فساد في منطلقات تلك المحددات الثلاث السابقة - أن يكون ملتقىً إعلامياً من شأنه أن يُحدث ذلك الزلزال في كيان ووجدان أبناء منطقة لم يبادروا بعمل أقل من هذا الاعتراض على منظومة فساد إداري تنخر عظام منطقتهم وتهدد مستقبلها وحاضرها !!

      إن هذا الانحراف الطبيعي لجوهر الحكم على الأشياء مردّه حالة انفصام هائلة في عمق الوجدان الذي يسيطر على كثير من الناس ,سببها حالة نكوص ثقافي وردّة فكرية عميقة تشكلت عبر عقود من الزمن سيطر فيه خطاب فكري واحد عمّم نظرته السائدة ولوّن الوجدان الجمعي بلونه الواحد , وأقصى مخالفيه ووصفهم بأبشع التهم والأوصاف , ثم تغلغل في المنظومة الاجتماعية وفرض رأيه السائد الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه  ؛ كونه يرفع الشعار الديني اللازم لتسويق تلك الأفكار , وساهم في ترويج القيم المنافية للتسامح والتقارب , وحمّل الوعي العام بحمولات مشوّهة ومنافية لقيم التحضر والاندماج مع العالم , فحصل الانهيار المروع في شكل مخرجات اجتماعية مرتهنة لهذا الخطاب تتبنى آليات تفكيره تلقائيا , وتشكّل كتلة مزعجة الصوت , تثير الصخب في كل مرة على أبسط الأشياء وأكثرها سذاجة , إلا أنه صخب يثير من الأسئلة الموجعة ما هو أكثر صخباً وإثارة !!

       وهكذا في كل مرة ينجرف الوعي العام إلى حالة من الفوضى في التقييم المنطقي لأبسط الأشياء سذاجةً ؛ انطلاقاً من آليات تفكير تم تحريف منطقيتها الإنسانية والفكرية عبر تلك العقود من الزمن ؛ لمصلحة تيار ما , أراد التغلغل والسيطرة ورفع عقيرة المزايدات في كل مرة ؛ من أجل تحقيق المكاسب على حساب الوعي والعقل والضمير الذي تم التلاعب به وتشويهه خدمةً لتلك الأهداف !!


       وعلى كل حال .. فإن تفسير ذلك التنادي لمنع ملتقىً فكري أو إعلامي خارج منظومة تيار التشدد والممانعة , سببه تضخم (الأنا) التي أنتجت مصطلح الخصوصية ورسمت معالمها بشكل لا يمكن تصنيفها دينياً ولا بيئياً بل ( مذهبياً ) خالصاً , والدليل : أن الدين لا يمكن له أن يصل إلى هذه المرحلة من السخف الذي تم جرّه إليها قسراً . ولا البيئية بكل إرثها المتجذر في أعماق التاريخ قد حملت لنا أمثلة مشابهة لرفض آخرين حلّوا ضيوفاً على تلك البيئة وقدموا إليها لأي غرض كان . بل هو المذهب والمنهج بكل تدخلاته المزعجة في تفاصيل الحياة إلى تلك الدرجة التي يرى فيها إقامة ملتقىً إعلامي ثقافي تهديداً لهوّيته .. ضارباً بالأخلاق العربية الأصيلة وبمحددات الهوية والدين و(الخصوصية الحقيقية ) غير المؤدلجة والتي تميز ثقافتنا العريقة , ضاربا بكل ذلك عرض الحائط , من أجل اختلاف أفكار .. وهكذا يتم التشويه القيمي بشكل عنيف ومؤسف في منظومة الأخلاق والقيم المتوارثة , ويتم التلاعب بكل شيء من أجل تحقيق تلك الذات (المذهبية) !

      أخيراً .. هناك ومضة لابد من التفاؤل بها , قدّمتها منظومة الممانعة هديّة لمخالفيها , وهي أن سعارهم المستمرّ من أي شيء يرون فيه تهديداً لهم ولوجودهم إنما يكشف عن حالة خلل عميق في بنية الثقة لتلك الممانعة بنفسها وبمستقبلها . بمعنى أن خوفهم الدائم من مخاليفهم لا يعكس سوى حالة من الخوف على وجودهم بالكلية ؛ كون أن خطابهم الذي يستميتون في نبذ كل من يخالفه ليس بذلك الرسوخ والثبات بحيث لا يمكن تفسير كل ذلك السعار من الفكرة المخالفة إلا أنه نوع من انعدام ذلك الرسوخ والثبات واهتزاز موضع قدمه , وهذا ما نراه حاصلا من تحلحل المجتمع أخيرا من ربق الارتهان إليه . ولهذا جرى ويجري في كل مرة غليان غير طبيعي من أي فكرة – مجرد فكرة – من شأنها أن تضعهم في موضع الحرج . وهذا لا يفسر إلا أنهم هم أيضا غير واثقين من قدرة خطابهم على المواجهة والاحتفاظ بالمكتسبات !!




الاثنين، 18 نوفمبر 2013

الأخلاق بين الفلسفة الدينية والإنتاج المذهبي !!

     

     حين نتأمل في الحديث الكريم ( إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق ) سنجد أشياء عميقة جداً في تلك الكلمات القليلة . بل ستدفعنا تلك الروح التي تفوح من تلك الكلمات إلى السير باتجاه إنتاج الكثير من الدراسات والبحوث الدينية التي ستنقّب بشكل جاد عن ماهية الدين , وفلسفته , ورسالته التي جاءت – كما يقول الحديث – لإكمال المنظومة الأخلاقية الإنسانية .

     العرب في العصر الجاهلي كان لديهم أخلاقهم الإنسانية الرفيعة –مثل سائر الأمم – التي تنشأ الأخلاقيات فيها وتتنوع بحسب الثقافة الخاصة بكل أمة . إلا أن هناك مشتركات إنسانية عامة تشترك فيها كل الأمم , وهي التي جاء الدين ليعززها أو ( يتممها ) . وقد لا نحتاج إلى إيضاح الكثير من الأخلاقيات التي كانت عند العرب , وأن الدلالة المقصودة من اصطلاح ( الجاهلية ) خاصة بما كان يوصف به العرب من الجهل ( ضد الحِلم ) وليس الجهل ( ضد العلم ) حيث يقول عمرو بن كلثوم :
ألا لا يجهلنْ أحدٌ علينا *** فنجهلُ فوق جهل الجاهلينا
أي لا يغضب علينا أحد فنغضب فوق أي غضب !

    لنتجاوز الحديث عن ذلك العصر إلى عصر نعيشه الآن وتتخذ فيه الأخلاقيات مساراً آخر . ذلك المسار عبّدته ظروف المرحلة فحصلت الفجوة الهائلة بين الأخلاق العربية الأصيلة كما هي في العصر الجاهلي وعصر صدر الإسلام ,وبين فئات من المجتمع اليوم تحكمها تصورات مذهبية مؤدلجة ترى أنها تُحسن صنعاً بممارسة أخلاقياتها التي صاغها الارتهان المقيّد إلى الفكرة الواحدة والرأي الواحد المزهوّ بذاته والنافي لغيره .

     يهون كل شيء في هذه الحياة إلا أن تتحول الأخلاقيات السلبية إلى منهج مُشرعن يُغذّى باستمرار بغطاء ديني . فحين يلجأ الفرد إلى سوء الخلق أو الظلم أو رفض وطرد الآخر ( ولو كان ضيفاً يحل به ) اعتقاداً أنه ينطلق من دين يدين الله به , ففي هذه الحالة نحن أمام انحراف خطير ليس في الإنسانية المتحضرة والأخلاق العربية فحسب , بل في الدين نفسه , وتحوله إلى دين طارد يُلجئ أتباعه ويدفعهم إلى الخروج منه تحت وطأة قساوة هذا النفي والإقصاء وانعدام الأمن والتسامح !!

    ينطلق المتدين المتمذهب في عدائه لما حوله ومن حوله من منطلقات (مذهبية ) يتم إسقاطها على نصوص ومحددات دينية كبرى باعتساف وليّ لأعناق الفهم الطبيعي واللغوي منها , فنجده وبكل يسر وسهولة يسحتضر نصاً خاصاً بالمنافقين في عهد النبي ( ص ) مثلاً , وإسقاطه على الآخر المختلف معه , بكل سطحية وسذاجة . ثم تأتي مرحلة الوعي والتصديق بذلك الإسقاط , فيتصور ذلك المتدين أن هؤلاء ( المنافقين/ المخالفين له ولتصوراته ) يدسّون المؤامرات ويحيكون الدسائس , وهكذا إلى أن يصل إلى درجة لو قال أحد أولئك المختلفين معه ( لا إله إلا الله ) لتمّ تفسيرها بأسوأ ما يمكن ؛ انطلاقا من قاعدة راسخة بأن هؤلاء ( المخالفين ) لا يتحركون إلا ضده هو وحده , وأنهم يُسخّرون كافة حياتهم من أجله فقط !

    المرحلة الأخيرة التي يصل إليها الوعي المؤدلج بالمذهبية المنغلقة هي تطور ذلك الاختلاف والشك والقلق عند بعض المتدينين وجماهيرهم من ( الآخر المختلف ) إلى مُخرجات أخلاقية بالغة السوء , وهذا ما أقصده في هذه المقالة , وهو ما دفعني إلى الحديث عن تداعياتها المنفلتة  , باعتبارها من أهم مخرجات الحالة المذهبية السائدة , فحين نعود إلى حديث ( إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق ) سنجد كم قد حصل الانحراف الكبير عن الفلسفة الدينية الأصيلة كما جاءت في عذريتها الأولى في فترة إسلام ما قبل المذاهب , كذلك الانحراف عن المنظومة نفسها في الأخلاق والشيم الجاهلية قبل انبلاج نور الإسلام , فحصلت الخسارة المزدوجة بما يمكن أن يوصف بالمثل الشعبي ( لا بلح الشام ولا عنب اليمن ) , وكل ذلك بالتبرير المذهبي المؤدلج الذي شرعن بعض الأخلاقيات وأوهم أنها من أبواب الجهاد المأجور من أجل كلمة الله , في حين أن الله لا يحتاج إلى هذا الانحراف من أجل إثبات نفسه في هذه الدنيا , ولم يأتينا الإسلام بأمثلة مشابهة لنفس السلوكيات , فمن أين جاءت الجرأة في كل هذا الافتئات الخطير على منظومة القيم الدينية ؟ والتشويه – المقصود وغير المقصود – للفلسفة الدينية بهذا الشكل ؟

    هناك جذور أولى تتعلق بنشوء وتطور تلك الأخلاقيات , منها التربية الأولية التي يتم زرعها في الوجدان العام عبر التأجيج وبث الكراهية , فتتطور بدورها إلى ثقافة مستهلكة تقوم بدورها بإنتاج مختلف الأخلاقيات التي ربما يتبرأ بعض الوعاظ منها علناً لكنهم ينسون أو يتناسون أنها ثمار لتلك البذور التي تم بذرها ورعايتها إلى أن أصبحت ثمراً ناضجاً ( يُعجب الزرّاع نباته ) !!

     حتى نكون مجتمعاً صحياً تأخذ فيه الأخلاق تموضعها الراقي كما عند بقية الأمم المتحضرة علينا أن نقوم أولاً بمراجعة الثقافة والمحددات المشاعة انطلاقا من دوافع حرة تمليها الحالة الإنسانية والرغبة في الدخول إلى المجتمع العالمي بمؤهلات مناسبة تُعطي الصورة الصحيحة للإسلام الأول غير المؤدلج أو المخطوف مذهبياً . علينا أن نقوم بذلك قبل أن يحصل الانهيار وتبعاته , فأفكار العنف والإرهاب بدأ يتخلص منها الوعي العام الشامل في مجتمعنا بعد سلسلة ضربات هزّت العقل الجمعي العام , فتحرك تلقائيا في مواجهة تلك الأفكار والتبرؤ منها . لكنه تحركٌ متأخر ولم يكن بدوافع ذاتية حرة تستشعر الخطورة الكامنة منذ البداية . وهذا النوع من التحرك يكون غالباً في الوقت الضائع .

      علينا أن نُدرك أن من بين تلك الخطوات المهمة في إعادة صياغة وعينا الذي نريد أن نخرج به إلى العالم خطوات جريئة تتعلق بنقد التراث الذي أعقب فترة الإسلام الصافي , وما تبع تلك الفترة من انحرافات بالغة السوء عن مقاصد الفلسفة الدينية الصافية كما جاءت . تلك الخطوات تتطلب المزيد من الفصل بين ما هو ديني وما هو مذهبي تدخلت السياسات والمذاهب في تشكيله واتخذناه إلى اليوم ديناً ننطلق من مفاهيمه المصنوعة بشرياً .


الاثنين، 11 نوفمبر 2013

تقريب التغريب !!

  


  من أكثر الكلمات التي تصدح في فضائنا العام , نكاد نتصبح ونتمسّى بها في مكارثية غير مسبوقة , يطلقها تيار الممانعة التقليدية ضد كل ما من شأنه تحديث وتطوير الحياة العامة ؛ للوصول إلى استثارة وتخويف الهوية . هكذا مفهومها , ولكن ما هي أبعادها وجذور دوافعها ؟ القليل من النقاشات التي تناولت هذا الجانب , والكثير منها كانت مجرد ردود أفعال تلقائية لا تسهم في تلمس دوافع تلك الممانعة وبحثها ومحاولة اكتشاف تفاصيل منطقها المعارض .


     ومن الخطأ القول بأن منظومة تلك الممانعة إنما تنطلق من عداوةٍ مجردة للحياة أو التحديث أو الرغبة في عزل المجتمع عن واقعه وعالمه فقط , وبشكل يساهم في تسطيح القضية أكثر فأكثر, فالواقع التاريخي لتلك المنظومة الممانعة منذ مسألة تعليم البنات لا يكشف أن هناك عداءً سطحياً لكل مظاهر التحديث المجرد , فربيع الطفرة الاقتصادية في السبعينات مرّ دون أي مقاومة ضد مظاهر التحديث المدني في منظومة التنمية بشكل عام .. إنما لابد من توفر ظروف أخرى أكثر تعقيدا حتى يكون التحديث مندرجاً لديهم في دلالة ( التغريب ) , من بينها أن يتقاطع مع الحالة الاجتماعية التي كانوا في فترة ما يمتلكون زمام توجيهها !!


    الدليل على ذلك , هو أنه حتى في عصر الصراع مع تيار ( الحداثة ) في الثمانينات , ومع التوجه الصريح للحداثة في طرح خطاب التحديث المباشر , إلا أن كلمة ( تغريب ) وتداعياتها التي تتطور إلى ممارسات ( احتسابية ) لم تكن بمثل هذه البروباغاندا الهستيرية التي نراها مؤخراً في كل شيء , حيث كان القطب الدلالي المواجه لاصطلاح ( حداثة ) هو ( الإسلام ) وكانت تُطرح الحالة الدينية كـبديل مفترض في مواجهة خطاب الحداثة . وهذا يعني اللجوء لمنطقة الدين في مواجهة ذلك التغيير الذي يبشر به خطاب الحداثة . بينما نجد الآن أن الحالة هي حالة اعتراض مجرد دون استحضار مكثّف لمنطقة الدين بعد انكشاف المعلومات الدينية الكافية للمجتمع بفضل عصر ثورة المعلومات ودخول خطابات دينية أخرى أكثر تصالحاً مع ذاتها وأكثر تسامحاً مع الواقع . فنجد أن خطاب الممانعة قد أخذ تكتيكاً آخر غير الاستثارة المجردة للدافع الديني عند الناس , فنجده مثلا اتخذ طريقة الترهيب من حالة ( الانسلاخ ) الحتمية من الدين والهوية بالكليّة , متكّئاً على دوافع أخرى تدخل فيها توصيفات قومية مع دينية مع وطنية ...إلخ . أي أن الخطاب الممانع بدأ يتخذ طريقة أكثر إنشائية في طرح رؤاه الاعتراضية , وهي طريقة تستمد منطقها من فضاءات أكثر اتساعاً , لا يمكن محاصرتها بمحددات دينية ثابتة من الممكن أن يمتلكها أي خطاب ديني آخر ( مختلف طبعاً ) .



     ذلك الأمر يعتبر لجوءاً إلى منطقة أخرى غير مكشوفة من الخطاب الديني الآخر والمختلف والذي يمكن أن يقف بشكل قوي في إثبات زيف تلك الممانعة عبر استحضار التاريخ الديني المختلف مع محددات تلك الممانعة خصوصا فيما يتعلق بشؤون المرأة وحالتها في عصر صدر الإسلام المختلفة جذرياً مع ثقافة خطاب الممانعة الحالي , فنجد أن الانتقال إلى مجال آخر في المناورة لم يكن عبثياً وإنما فرضته تحديات مرحلية بالنسبة لذلك الخطاب الممانع , ومن هنا نرى ذلك الاتكاء على مكارثية الانسلاخ من الهوية للوصول إلى التغريب وبشكل لا يمكن أن يُواجه دينياً من نفس المنطق الديني  حيث الفضاء الواسع لدلالة ( التغريب ) والاستفادة من منجزات العولمة في إثبات وجود الخطورة المتخيلة , وتأجيجها , ونقلها من موضع إلى آخر !!



    هذا تطور ملحوظ في خطاب الممانعة المحافظة ربما لم ينتبه له الكثيرون , حيث إن ذلك الخطاب الممانع الذي تبدو للبعض سذاجته الظاهرة في معارضته مثلاً لمجرد رياضة البنات في المدارس هو ليس كذلك حتماً . فالحقيقة أنه يتحرك ويتطور في عملية وعيٍ ملحوظ بالواقع والتحديات التي تواجهه , فالحديث عن الهوية هو باب واسع لا يمكن أن يتداخل مع حقائق دينية مجردة وواضحة من الممكن إثباتها أو نقضها . ومن هنا جاءت استثارة دوافع ( الهوية ) في مواجهة ما يسمى بـ ( التغريب ) بهذا الشكل , وبطريقة لا يمكن دفعها بذات الأدوات الدينية التي يتلقاها المجتمع عبر قنوات التلقي المتنوعة , بل بصناعة الخطر المتوهم في الأذهان وتضخيمه , وجرّ الصراع إلى ساحة أخرى أكثر اتساعاً في استحضار المخاوف المتنوعة  !!



    كل ذلك من أجل دافعية أكبر من مجرد الاعتراض المجرد أو الخوف على مقدرات الهوية والدين بذلك الشكل الساذج , وإن كنتُ لازلت أحسن الظن أحياناً في براءة تلك المنظومة الممانعة , إلا أنه وفي أحايين كثيرة تبدو لي الحالة كنوع من الصراع من أجل البقاء , خصوصاً مع نشوء مرحلة جديدة تفرض تأثيرها بقوة وهي زعزعة المكانة والمكتسبات التي حصلت عليها منظومة الممانعة تلك قبل أن تكون ممانِعة أصلا , بل منذ أن كانت مجرد منظومة وعظية تبالغ في التدخل في كافة تفاصيل الحالة الاجتماعية , قبل أن تتحول إلى ممانعة واضحة بعد التعرض لمتغيرات جديدة أسهمت في تحول الكثير من الناس إلى آفاق أخرى أكثر إدراكاً بالواقع والحياة وأكثر تصالحاً مع الذات ومع الهوية أيضاً !!



    قد لا نحتاج إلى إثبات أن التغريب الحقيقي الذي حصل هو تلك المخرجات الاجتماعية في الثقافة والأفكار التي عزلت مجتمعنا عن واقعه وزمنه خلال عقود من سيطرة خطاب وعظي أسهم في التغريب عن الواقع والحياة والزمن تحت ذريعة ما يسمى بـ ( الخصوصية ) , وقد لا نحتاج إلى التأكيد على تفاقم الأمراض الاجتماعية وحالة العزلة عن فهم الآخر أو التواصل مع الآخر أو حتى التسامح المجرد مع ذلك الآخر بسبب إفرازات تبعات تلك الخصوصية , وتموضعها العشوائي في الوعي الجمعي دون ضبطية منطقية تخضع لأبسط أبجديات منطق ومعايير الثابت والمتحول .




    ما نحتاجه هو شيء من التكافل الديني الناضج مع فكر إصلاحي غيور على تلك الهوية ذاتها من انحلال ظهرت معالمه في حالات إلحاد صارخة بدأت تأخذ طريقها إلى وعي جيل جديد .. نريد شيئاً من إعادة الاعتبار إلى الوعي والعقل والواقع , ولن تكون المهمة سهلة أبداً أمام منظومة متجذرة ومتحركة وتأخذ تحركاتها التكتيكية في كل مرة أبعاداً أخرى , وإن كان من السهل جداً مواجهتها وكشفها في كل مرة , إلا أنه ليس من السهل إزالة ركام مخلفاتها الزمنية من الوعي والوجدان !!



الجمعة، 1 نوفمبر 2013

الحل .. بين الإسلام والعلمانية !



بين مقولتي : الإسلام هو
الحل , والعلمانية هي الحل !



عقود من الزمن ظلّت النقاشات الجدلية حول ثنائية ( الإسلام – العلمانية ) تتراكم دون أن تُنجب الحل المنشود ولو سفاحاً , بل ربما زادت من توسيع هوة النقاش مع توسع دلالة الاصطلاحات التي تناسلت فيما بعد جرّاء ذلك الجدل , فظهرت دعوات إلى التفريق بين العَلمانية بفتح العين والعِلمانية بكسرها , والدعوة إلى علمانية جزئية وأخرى كلية , كما تم توسيع دلالات الإسلامية إلى التفريق بين الإسلامية والإسلاموية والإسلامية الحركية بطيفها المتنوع والذي يتخذ كل كيان من كياناته صورة أخرى من الخطاب الجدلي المتضخم بالتفاصيل المولّدة لمنظومات جدلية لا تنتهي .. وهكذا ظلت التجاذبات تأخذ شكلاً تضادياً دون أن يكون هناك منتج على الصعيد الفلسفي يمكن أن يقدم لنا ما يمكن أن يكون حلاً أو مقترحاً لحلّ !!

لماذا إثارة هذا الجدل في كل مرة ؟؟

هذا الجدل لا نحتاج إلى إثارته كونه مثاراً أصلا ويصرخ بالإثارة اليومية , وما يجري الآن في يوميات الربيع العربي من أحداث وتداعيات هنا وهناك , وما تحمله يوميات نقاشاتنا , وما يختمر في تصوراتنا عن المستقبل , كل ذلك إنما هو صورة أخرى من جدلية اتخذت فيما يبدو صفة الأزلية في وعينا الشرقي بين قطبي تلك الثنائية , وما تداعياتها السياسية والاقتصادية والفكرية إلا صورة من صور تلك الجدلية , وكلما تقاعسنا في حسمها بأي شكل من الأشكال كلما اتسعت دائرة فراغها مع الزمن , وربما تأخذ مساراً آخر مع الأجيال القادمة قد يكون مسار صراع دموي بين أبناء الشعب الواحد , وذلك لأنه يأخذ الآن صفة الصراع بين مرجعية أفكار تتغذى على إرث من المحددات المحفوظة , وبين مرحلة واقعية أخرى فرضتها ظروف جديدة وإحلال جديد لجملة أفكار جديدة تلحّ هي الأخرى في فرض حضورها الضروري في السلوكيات اليومية للأفراد وأفكارهم !

ربما ليس هنا موضع إيجاد ( الحلّ ) المنتظر , وهل هو مع الإسلام أو مع العلمانية , إنها مهمة شاقة , وبحاجة إلى عقود أخرى من الزمن تتبلور فيه الكثير من المفاهيم وتتحدد بشكل واضح المواضع الصريحة لقطبي تلك الثنائية , وبشكل لا يخضع للتفسيرات الخاصة , لذا فأعتقد أن المهمة الأكثر إلحاحاً الآن هي تفسير ما هو الإسلام الذي قد يكون هو الحل ؟ أو ما هي العلمانية التي يمكن أن تقدم الحل ؟

في مقالات سابقة دعوتُ إلى وجوب التفريق بين الإسلام وبين المذهب في تناول ثنائية (الدين والعلمانية ) , فبعض الأفكار البسيطة التي قد لا تتقاطع مع الدين لا من قريب ولا من بعيد حين يتناولها الوعي المذهبي الذي قد يكون في بعض الأحيان نتاج ثقافة قُطْرية , فإنه سيحوّل  تلك الأفكار المذهبية / بيئية الدوافع إلى أيقونة مضخمة في التفريق بين من يوصف بالمسلم أو نقيضه (العلماني / التغريبي / الليبرالي ) من وجهة النظر المذهبية تلك , كما حصل من انقسام يكاد يكون دينياً في قضية ساذجة كقيادة المرأة للسيارة في المملكة , فأصبحت معارضتها منطلقاً دينياً , وتأييدها خروجاً عن الدين ! بينما في حقيقة الأمر لم تكن المعارضة سوى ( مذهبية ), والتأييد خروجاً عن تلك ( المذهبية ) بعض الشيء , ولم يكن خروجاً عن الدين بالكلية !

وفي أقطار عربية وإسلامية أخرى تأخذ صورة الصراع شكلا مختلفاً في تحديد طبيعة الجدل بين المحافظة والتحديث , وذلك بحسب طبيعة مجال المناورة بين القطبين , فالتحديثي أو من يوصف بـ ( التغريبي ) في بلد كالمملكة , هو نفسه يكاد يكون محافظا أصولياً في بلد عربي آخر تختلف فيه طبيعة الأشياء والأفكار والتصورات , ومن هنا لا يمكن أن يكون هناك تعريف محدد وثابت لماهية الدين أو العلمانية التي تتطلع للتحديث , إلا بحسب مجال المناورة في كل بلد !

ومرة أخرى .. ما هو الإسلام الذي سيكون هو الحل ؟ وهل ما نراه في محددات الإخوان المسلمين مثلاً , أو السلفيين , أو ولاية الفقيه في إيران , أو طالبان في أفغانستان يمكن أن يكون كافياً لإعطاء تفسير عن تلك الصورة المقترحة التي سيقدمها الإسلام كحل ؟
وأي صورة من الإسلام من بين كل تلك الصورالمتباينة بشكل صارخ يمكن أن يقدّم كنسخة جاهزة للحل ؟

وأي علمانية أيضاً تلك التي يمكن أن تقدم الحل ؟ هل هي العلمانية نفسها ما قبل أردوغان في تركيا ؟ هل هي علمانية الهند أو دول أفريقيا التي لم تقدم لها شيئاً ملموساً في مسار التنمية ؟

وللتمثيل بصورة أخرى :
هل يكفي أن يكون الحاكم إسلامياً والدستور علمانياً كما في تركيا ؟ أو أن يكون الدستور إسلامياً والحاكم علمانياً كما في بعض الدول العربية ؟
وإن كان لا يكفي لا هذا ولا ذاك , فهل يكفي أن ينقسم الأداء السياسي إلى : إسلامي داخل الدولة في النظم والقوانين , وعلماني خارجها في السياسة والاقتصاد والعلاقات الدولية ؟
وإن كان هذا بدوره سيؤثر على الأقليات , فهل يمكن أن يعاد تفسير المحددات الإسلامية بشيء من التحديث أو ( اللبرلة ) الممكنة ؛ لتنسجم مع واقع زمني يفرض حضوره , وتستجيب لدواعٍ سياسية لا مناص من وضع اعتباراتها في الأداء السياسي !

الكثير والكثير من المفاهيم يجب أن يعاد ترتيبها المنطقي من أجل الوعي بالمشكل الاصطلاحي الذي يمارس في كل مرحلة زمنية المزيد من التشويش على الفكرة وآفاقها وينحرف بها عن الوصول إلى حل , في حين أن من المفترض أن يكون هذا الجدل التراكمي قد أنضج أفكاراً أخرى تتجه بالمُدرك الذهني إلى مسارات صحيحة نحو تقديم فكرة ناضجة يمكن أن تقدم كشعار أكثر عملية ومنطقية من الشعارات المعلّبة منذ قرن من الزمن !!


في كل مرة أتناول حكاية العلمانية والإسلام أجدني أستدعي قصة الخليفة عمر بن الخطاب حينما أوقف حدّ السرقة عام الرمادة هذا الإيقاف أو التعطيل يوصف بأنه أداء سياسي قفز على محددات الدستور الديني استجابة لطارئ زمني ملحّ , وبالتالي حصلت عملية ( فصل النص الديني عن الأداء السياسي ), لو لم يقم به – ولن يلام على ذلك – لكانت التداعيات الاجتماعية والسياسية أكبر وأخطر بكثير مما لو أبقى على التفعيل المجرّد لتلك الحدود في وقت لا يخدم ( مقصودها ) الفلسفي الذي جاء بنيّة حفظ الضرورة الإنسانية والاجتماعية !!

الأحد، 27 أكتوبر 2013

الممانعة الاجتماعية .. من الانفصام إلى الانسجام !!



المتأمل لحالة الممانعة الاجتماعية ضد أي منتج من شأنه إحداث أي تغيير في النسق المُعاش أو نسق التفكير سيجد أن تلك الممانعة تأخذ في البداية الشكل السلبي ضد أي تغيير ثم ما تلبث أن تبرد حرارتها تدريجيا لتعكس حركة سيرها فتتحول إلى موافقة تدخل في ذلك التغيير بكل استسلام !

( ويمكن تشبيه الأمر بما يحصل ليلة الدخلة بين العريس وعروسه من حالة تمنّع مبدئي تتبعها حالة من الاستسلام والانسجام ) .

الأمر ليس مستغرباً – اجتماعياً- كحقيقة اجتماعية أشار ابن خلدون في مقدمته إلى شيء منها في وصفه لنشوء الدول والحضارات بأنها ( تبدأ بعنصر العصبية التي تقوم عليها الدولة , ثم تختفي تلك العصبية أو تخبو جيلاً بعد جيل , أو كما وصفها بالذوبان ) . ونفس الأمر ينطبق على أي فكرة حديثة طارئة على المجتمع باعتبار تلك الأفكار نشوءاً جديداً تبدأ تلك العصبيات المتوالدة في كل جيل برفضه , ثم ما تلبث أن تتصالح معه أو تستسلم له , وهكذا في كل جديد .

لسنا بحاجة إلى المزيد من الشرح لأسباب الرفض المبدئي لأي جديد مادام أنه سنّة اجتماعية في كل زمن , إلا أن ما ينبغي الحديث عنه هو تتبع حالة ذلك الحراك الممانع في لجوئه للدين واستخدامه له كمعزّز له في تفعيل الممانعة وإعطائها البعد الشرعي المطلوب لتصبح ممانعة ( لا يأتيها الباطل ) رغم أنها بعد فترة سوف تنهزم ( طبيعياً ) !

من هنا الخطورة على الوعي الديني عند الأجيال , حين تكون الاجتهادات الفقهية النابعة من الطبيعة الاجتماعية والبيئية الرافضة للتغيير في موقف المهزوم دائماً , تكمن الخطورة في تراكم الوعي بالسلبية الدينية حين تتبنّى الرفض المطلق دائما وتقف حائطا أمام تطلعات أجيال تعيش واقعاً مختلفاً . تلك الأجيال نفسها هي التي ستقوم بعد ذلك بعملية كنس ذلك الرفض والإقدام على خوض وتبني مواقف أكثر انسجاماً مع تلك الفكرة المرفوضة بدل المواقف السابق منها , وسوف يدرك كل جيل لا يلتزم بالموقف المعارض أن مبدأ التدخل الديني في تلك الفكرة التي وجدوا ضرورتها في حياتهم كان فجّا وغير مناسب !!

الأمثلة كثيرة ووافرة , وربما حمل الوعي الاجتماعي الكثير منها ولا يزال , بدءاً من تحريم التلكس والبرق والسيكل ... إلى قيادة المرأة للسيارة , ومع كل منتج حياتي جديد من منتجات ذلك التغيير الحتمي والطبيعي لواقع الحياة سنجد أن رحلة الوعي الاجتماعي تأخذ مساراً درامايتكيا من الانفصام بينها وبين الجديد إلى الانسجام التام مع ذلك الجديد !!

ولهذا ففي الحالة الاجتماعية السعودية تأخذ الممانعة شكلاً خطيراً باتكائها الدائم على الدعم الديني , أو ربما كان هذا الداعم الديني ( المذهبي ) هو الموجّه الفاعل للوعي الاجتماعي والمبرمج لصيرورته وتحولاته , في مجتمع خرج للتو من حالة التخلف الحضاري ويتطلع بشكل جاد إلى التحديث من أجل حياته اليومية , وتشكل نسبة الشباب فيه أكثر من 70 % من مجموع السكان .. والخطورة هنا ليست في إعطاء حالة الرفض أو الممانعة ذلك الغطاء الشرعي في كل مرة , بل بما يمكن أن يترتب على ذلك في وعي النشء من تصورات تتراكم في كل مرة لتنتج صورة واحدة سلبية وهي : أن الدين ضد حياتكم اليومية !!

تلك النتيجة المترتبة يجدر أن تدفع بالمنظومة الدينية إلى إعادة النظر بشكل جاد  في آلية انفعالها اللحظي وموقفها المبدئي , من أي متغير . حيث لا يليق بها في كل مرة أن تظهر إما بشكل مأزوم أو مهزوم , وعليها التفاعل مع حتمية الواقع الاجتماعي الآخذ في التغيير كسنن إلهية كونية جعلت في كل مجتمع وكل زمن , بدءاً من زمن الصحابة نفسه الذي اتخذت فيه الكثير من المواقف وليس أدلّها الموقف الجريء للخليفة عمر بن الخطاب  من حدّ السرقة عام الرمادة , وكيف أقدم على إحداث ( تغيير ) تكتيكي كبير جداً في حجمه بتعطيل حدّ من الحدود نزولاً عند ملحّات ( الواقع ) الزمني آنذاك !!

إن المسألة لا تتطلب أن يُبعث ( مجدّد ) ديني في كل مرة , بقدر ما هي حاجة إلى آليات تفكير أكثر واقعية وأكثر تصالحاً مع النفس ومع الواقع ومع الحياة , آليات تفكير منطقية تُحسن استنباط المقصود الديني الصحيح المتوافق مع روح الشريعة السمحة والدفع بها كمحددات تكون فيما بعد هي المسؤولة عن طبيعة المواقف الانفعالية من كل تغيير جارف , وبشكل واعٍ , وليس تحكيم محددات المزاج البيئي أو المذهبي وإعطائها الغطاء الشرعي اللازم لمقاومة التغيير !

أخيراً .. مسألة الهوية , هل هي ثابتة أو متحركة ؟

حقيقة الخلط الحاصل هو أن هناك عدم إدراك لحقيقة الهوية من حيث كونها دائرة كبرى تحتوي على دوائر أصغر وتلك الدوائر الأصغر تحتوي بدورها على دوائر أكثر صغراً , وهكذا إلى أن يصل الإنسان إلى هويته الفردية المميزة له داخل أسرته أو عائلته الصغيرة !!

فأي الهويّات بالضبط هي التي تجب المحافظة عليها , وأي الهويات ثابتة وأيها متحركة مع الزمن ؟

حين يكون الوعي الديني بهكذا قدرة على استيعاب التفصيل المنطقي لأبسط الأشياء , فحينها سيكون التجديد الديني تلقائياً ويسير بشكل فاعل في كل مرة , ولن نحتاج إلى الأشخاص , كما هي حاجتنا إلى الأفكار وآليات إنتاجها , وقد لا نحتاج حتى إلى ( المهدي المنتظر ) لأن ذلك النجاح الديني والاجتماعي والحضاري سيتبعه النجاح السياسي بلا شك , كما هم الغرب الآن , ليسوا بحاجة إلى أي ( منقذ ) ليخلّصهم !

ومع ذلك , هم من يجب أن يدعون الله ليلاً ونهارا ( الله لا يغير علينا ) !!