السبت، 23 نوفمبر 2013

النسخة المحرّفة من ( الخصوصية ) !!



    لا أعتقد أن تيار الممانعة الديني لا يرى ولا يعلم بوجود ظاهرة الفساد الأخلاقي المهول في كل مدينة وقرية ,وإن كان لا يعلم فتلك مصيبة أخرى . إلا أنه – ومع علمه أو بدون علمه – لا يرى أي أخطار تحدق ببنية الأسرة أو التكوين التربوي للفرد الواحد , وبشكل يهدد حتى المستقبل النهضوي للوطن , لا يرى أياً من تلك الأخطار إلا تلك الأخطار المتخيلة من وجهة نظره من خلال إقامة الملتقيات والندوات الثقافية التي هي بدورها تشتكي قلة زوارها والمهتمين بها . وذلك بدعوى أن تلك الأنشطة ( تغريبية , ليبرالية , علمانية ..إلخ ) أي أن الخطورة الكامنة في ملتقى ثقافي سيكون أشد من حفلات الشذوذ الجنسي المنظمة بشكل علني في الفيس بوك والتويتر في كل منطقة !!

    هذا هو إذاً مجتمع الفضيلة و (الخصوصية ) . أهم شيء يميز خصوصيته أن أي انحراف سلوكي لا بأس به أن يكون في الخفاء لا العلن الظاهر .. تهمّه كثيراً ( الظاهرة ) ويحرص على أن تكون تلك الظاهرة هي العنوان الرئيس له ولا يهم شكل ( الباطن ) بعد أن يتم تحقيق الإشباع المعنوي في تضخيم تلك ( الخصوصية ) . وبذلك نحقق تلك المقولة التي ترى بأننا أشبه بمن يخبئ القاذورات تحت سجادته . هكذا إذاً تتعامل النظرة الممانعة مع واقعها الذي توزع فيه أفكارها بشكل يدعو إلى الحيرة في كيفية تقييم تلك المخرجات الفكرية لمنظومة الممانعة , وكيفية التعامل معها , ودراستها , وتحليلها !!

   إنه أمرُ يدعو للشفقة والرثاء لحالة التزييف الحاصلة في الوعي والتفكير أن يتمّ التنادي لمنع إقامة ملتقى إعلامي في منطقة من المناطق حرمت التنمية لعقود ,دون أن يتم أداء نفس الدور في التنادي لمنع مختلف أشكال الفساد الإداري والأخلاقي الذي يستهدف مستقبل الأجيال القادمة ويستهلك منظومتنا الاقتصادية والمعرفية والقيمية الحالية !!

       إن الأسى والأسف يبلغان ذورتهما عندما نرى كل هذا الانحراف عن المنطق والعقل والضمير - وبشكل لا يُفسر إلا بأنه فساد في منطلقات تلك المحددات الثلاث السابقة - أن يكون ملتقىً إعلامياً من شأنه أن يُحدث ذلك الزلزال في كيان ووجدان أبناء منطقة لم يبادروا بعمل أقل من هذا الاعتراض على منظومة فساد إداري تنخر عظام منطقتهم وتهدد مستقبلها وحاضرها !!

      إن هذا الانحراف الطبيعي لجوهر الحكم على الأشياء مردّه حالة انفصام هائلة في عمق الوجدان الذي يسيطر على كثير من الناس ,سببها حالة نكوص ثقافي وردّة فكرية عميقة تشكلت عبر عقود من الزمن سيطر فيه خطاب فكري واحد عمّم نظرته السائدة ولوّن الوجدان الجمعي بلونه الواحد , وأقصى مخالفيه ووصفهم بأبشع التهم والأوصاف , ثم تغلغل في المنظومة الاجتماعية وفرض رأيه السائد الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه  ؛ كونه يرفع الشعار الديني اللازم لتسويق تلك الأفكار , وساهم في ترويج القيم المنافية للتسامح والتقارب , وحمّل الوعي العام بحمولات مشوّهة ومنافية لقيم التحضر والاندماج مع العالم , فحصل الانهيار المروع في شكل مخرجات اجتماعية مرتهنة لهذا الخطاب تتبنى آليات تفكيره تلقائيا , وتشكّل كتلة مزعجة الصوت , تثير الصخب في كل مرة على أبسط الأشياء وأكثرها سذاجة , إلا أنه صخب يثير من الأسئلة الموجعة ما هو أكثر صخباً وإثارة !!

       وهكذا في كل مرة ينجرف الوعي العام إلى حالة من الفوضى في التقييم المنطقي لأبسط الأشياء سذاجةً ؛ انطلاقاً من آليات تفكير تم تحريف منطقيتها الإنسانية والفكرية عبر تلك العقود من الزمن ؛ لمصلحة تيار ما , أراد التغلغل والسيطرة ورفع عقيرة المزايدات في كل مرة ؛ من أجل تحقيق المكاسب على حساب الوعي والعقل والضمير الذي تم التلاعب به وتشويهه خدمةً لتلك الأهداف !!


       وعلى كل حال .. فإن تفسير ذلك التنادي لمنع ملتقىً فكري أو إعلامي خارج منظومة تيار التشدد والممانعة , سببه تضخم (الأنا) التي أنتجت مصطلح الخصوصية ورسمت معالمها بشكل لا يمكن تصنيفها دينياً ولا بيئياً بل ( مذهبياً ) خالصاً , والدليل : أن الدين لا يمكن له أن يصل إلى هذه المرحلة من السخف الذي تم جرّه إليها قسراً . ولا البيئية بكل إرثها المتجذر في أعماق التاريخ قد حملت لنا أمثلة مشابهة لرفض آخرين حلّوا ضيوفاً على تلك البيئة وقدموا إليها لأي غرض كان . بل هو المذهب والمنهج بكل تدخلاته المزعجة في تفاصيل الحياة إلى تلك الدرجة التي يرى فيها إقامة ملتقىً إعلامي ثقافي تهديداً لهوّيته .. ضارباً بالأخلاق العربية الأصيلة وبمحددات الهوية والدين و(الخصوصية الحقيقية ) غير المؤدلجة والتي تميز ثقافتنا العريقة , ضاربا بكل ذلك عرض الحائط , من أجل اختلاف أفكار .. وهكذا يتم التشويه القيمي بشكل عنيف ومؤسف في منظومة الأخلاق والقيم المتوارثة , ويتم التلاعب بكل شيء من أجل تحقيق تلك الذات (المذهبية) !

      أخيراً .. هناك ومضة لابد من التفاؤل بها , قدّمتها منظومة الممانعة هديّة لمخالفيها , وهي أن سعارهم المستمرّ من أي شيء يرون فيه تهديداً لهم ولوجودهم إنما يكشف عن حالة خلل عميق في بنية الثقة لتلك الممانعة بنفسها وبمستقبلها . بمعنى أن خوفهم الدائم من مخاليفهم لا يعكس سوى حالة من الخوف على وجودهم بالكلية ؛ كون أن خطابهم الذي يستميتون في نبذ كل من يخالفه ليس بذلك الرسوخ والثبات بحيث لا يمكن تفسير كل ذلك السعار من الفكرة المخالفة إلا أنه نوع من انعدام ذلك الرسوخ والثبات واهتزاز موضع قدمه , وهذا ما نراه حاصلا من تحلحل المجتمع أخيرا من ربق الارتهان إليه . ولهذا جرى ويجري في كل مرة غليان غير طبيعي من أي فكرة – مجرد فكرة – من شأنها أن تضعهم في موضع الحرج . وهذا لا يفسر إلا أنهم هم أيضا غير واثقين من قدرة خطابهم على المواجهة والاحتفاظ بالمكتسبات !!




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق