من أكثر الكلمات التي تصدح
في فضائنا العام , نكاد نتصبح ونتمسّى بها في مكارثية غير مسبوقة , يطلقها تيار
الممانعة التقليدية ضد كل ما من شأنه تحديث وتطوير الحياة العامة ؛ للوصول إلى
استثارة وتخويف الهوية . هكذا مفهومها , ولكن ما هي أبعادها وجذور دوافعها ؟ القليل
من النقاشات التي تناولت هذا الجانب , والكثير منها كانت مجرد ردود أفعال تلقائية
لا تسهم في تلمس دوافع تلك الممانعة وبحثها ومحاولة اكتشاف تفاصيل منطقها المعارض .
ومن الخطأ القول بأن منظومة
تلك الممانعة إنما تنطلق من عداوةٍ مجردة للحياة أو التحديث أو الرغبة في عزل
المجتمع عن واقعه وعالمه فقط , وبشكل يساهم في تسطيح القضية أكثر فأكثر, فالواقع
التاريخي لتلك المنظومة الممانعة منذ مسألة تعليم البنات لا يكشف أن هناك عداءً سطحياً
لكل مظاهر التحديث المجرد , فربيع الطفرة الاقتصادية في السبعينات مرّ دون أي
مقاومة ضد مظاهر التحديث المدني في منظومة التنمية بشكل عام .. إنما لابد من توفر
ظروف أخرى أكثر تعقيدا حتى يكون التحديث مندرجاً لديهم في دلالة ( التغريب ) , من
بينها أن يتقاطع مع الحالة الاجتماعية التي كانوا في فترة ما يمتلكون زمام توجيهها
!!
الدليل على ذلك , هو أنه
حتى في عصر الصراع مع تيار ( الحداثة ) في الثمانينات , ومع التوجه الصريح للحداثة
في طرح خطاب التحديث المباشر , إلا أن كلمة ( تغريب ) وتداعياتها التي تتطور إلى
ممارسات ( احتسابية ) لم تكن بمثل هذه البروباغاندا الهستيرية التي نراها مؤخراً في
كل شيء , حيث كان القطب الدلالي المواجه لاصطلاح ( حداثة ) هو ( الإسلام ) وكانت
تُطرح الحالة الدينية كـبديل مفترض في مواجهة خطاب الحداثة . وهذا يعني اللجوء
لمنطقة الدين في مواجهة ذلك التغيير الذي يبشر به خطاب الحداثة . بينما نجد الآن
أن الحالة هي حالة اعتراض مجرد دون استحضار مكثّف لمنطقة الدين بعد انكشاف
المعلومات الدينية الكافية للمجتمع بفضل عصر ثورة المعلومات ودخول خطابات دينية
أخرى أكثر تصالحاً مع ذاتها وأكثر تسامحاً مع الواقع . فنجد أن خطاب الممانعة قد أخذ
تكتيكاً آخر غير الاستثارة المجردة للدافع الديني عند الناس , فنجده مثلا اتخذ
طريقة الترهيب من حالة ( الانسلاخ ) الحتمية من الدين والهوية بالكليّة , متكّئاً
على دوافع أخرى تدخل فيها توصيفات قومية مع دينية مع وطنية ...إلخ . أي أن الخطاب
الممانع بدأ يتخذ طريقة أكثر إنشائية في طرح رؤاه الاعتراضية , وهي طريقة تستمد
منطقها من فضاءات أكثر اتساعاً , لا يمكن محاصرتها بمحددات دينية ثابتة من الممكن
أن يمتلكها أي خطاب ديني آخر ( مختلف طبعاً ) .
ذلك الأمر يعتبر لجوءاً
إلى منطقة أخرى غير مكشوفة من الخطاب الديني الآخر والمختلف والذي يمكن أن يقف
بشكل قوي في إثبات زيف تلك الممانعة عبر استحضار التاريخ الديني المختلف مع محددات
تلك الممانعة خصوصا فيما يتعلق بشؤون المرأة وحالتها في عصر صدر الإسلام المختلفة
جذرياً مع ثقافة خطاب الممانعة الحالي , فنجد أن الانتقال إلى مجال آخر في
المناورة لم يكن عبثياً وإنما فرضته تحديات مرحلية بالنسبة لذلك الخطاب الممانع ,
ومن هنا نرى ذلك الاتكاء على مكارثية الانسلاخ من الهوية للوصول إلى التغريب وبشكل
لا يمكن أن يُواجه دينياً من نفس المنطق الديني حيث الفضاء الواسع لدلالة ( التغريب )
والاستفادة من منجزات العولمة في إثبات وجود الخطورة المتخيلة , وتأجيجها , ونقلها
من موضع إلى آخر !!
هذا تطور ملحوظ في خطاب
الممانعة المحافظة ربما لم ينتبه له الكثيرون , حيث إن ذلك الخطاب الممانع الذي تبدو
للبعض سذاجته الظاهرة في معارضته مثلاً لمجرد رياضة البنات في المدارس هو ليس كذلك
حتماً . فالحقيقة أنه يتحرك ويتطور في عملية وعيٍ ملحوظ بالواقع والتحديات التي
تواجهه , فالحديث عن الهوية هو باب واسع لا يمكن أن يتداخل مع حقائق دينية مجردة وواضحة
من الممكن إثباتها أو نقضها . ومن هنا جاءت استثارة دوافع ( الهوية ) في مواجهة ما
يسمى بـ ( التغريب ) بهذا الشكل , وبطريقة لا يمكن دفعها بذات الأدوات الدينية
التي يتلقاها المجتمع عبر قنوات التلقي المتنوعة , بل بصناعة الخطر المتوهم في
الأذهان وتضخيمه , وجرّ الصراع إلى ساحة أخرى أكثر اتساعاً في استحضار المخاوف
المتنوعة !!
كل ذلك من أجل دافعية أكبر
من مجرد الاعتراض المجرد أو الخوف على مقدرات الهوية والدين بذلك الشكل الساذج ,
وإن كنتُ لازلت أحسن الظن أحياناً في براءة تلك المنظومة الممانعة , إلا أنه وفي
أحايين كثيرة تبدو لي الحالة كنوع من الصراع من أجل البقاء , خصوصاً مع نشوء مرحلة
جديدة تفرض تأثيرها بقوة وهي زعزعة المكانة والمكتسبات التي حصلت عليها منظومة الممانعة
تلك قبل أن تكون ممانِعة أصلا , بل منذ أن كانت مجرد منظومة وعظية تبالغ في التدخل
في كافة تفاصيل الحالة الاجتماعية , قبل أن تتحول إلى ممانعة واضحة بعد التعرض
لمتغيرات جديدة أسهمت في تحول الكثير من الناس إلى آفاق أخرى أكثر إدراكاً بالواقع
والحياة وأكثر تصالحاً مع الذات ومع الهوية أيضاً !!
قد لا نحتاج إلى إثبات أن التغريب الحقيقي الذي حصل هو تلك المخرجات
الاجتماعية في الثقافة والأفكار التي عزلت مجتمعنا عن واقعه وزمنه خلال عقود من سيطرة
خطاب وعظي أسهم في التغريب عن الواقع والحياة والزمن تحت ذريعة ما يسمى بـ (
الخصوصية ) , وقد لا نحتاج إلى التأكيد على تفاقم الأمراض الاجتماعية وحالة العزلة
عن فهم الآخر أو التواصل مع الآخر أو حتى التسامح المجرد مع ذلك الآخر بسبب
إفرازات تبعات تلك الخصوصية , وتموضعها العشوائي في الوعي الجمعي دون ضبطية منطقية
تخضع لأبسط أبجديات منطق ومعايير الثابت والمتحول .
ما نحتاجه هو شيء من
التكافل الديني الناضج مع فكر إصلاحي غيور على تلك الهوية ذاتها من انحلال ظهرت
معالمه في حالات إلحاد صارخة بدأت تأخذ طريقها إلى وعي جيل جديد .. نريد شيئاً من
إعادة الاعتبار إلى الوعي والعقل والواقع , ولن تكون المهمة سهلة أبداً أمام
منظومة متجذرة ومتحركة وتأخذ تحركاتها التكتيكية في كل مرة أبعاداً أخرى , وإن كان
من السهل جداً مواجهتها وكشفها في كل مرة , إلا أنه ليس من السهل إزالة ركام مخلفاتها
الزمنية من الوعي والوجدان !!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق