حين
نتأمل اليوم في أي مذهب معاصر من مذاهب الدين الإسلامي المتعددة , سنجد أن بدايات
تكوين ذلك المذهب تختلف عن صورته التي أصبح عليها , أي أنه قد يحصل له مختلف
التغييرات ( تطوّر , ردّات فعل معاكسة , تغيير تكتيكي , دروس تاريخية , إلخ ) وبالتالي
سيكون منتهاه متبايناً ( كليّاً أو جزئياً ) عن ابتدائه وقت تكوينه .
هذا
الأمر بحدّ ذاته سيفتح سؤالاً خطيراً كهذا :
إذا كان
( المذهب ) والذي هو صورة جزئية وفرعية عن الدين الإسلامي لم يصمد أمام عوامل
تعرية السنين والأزمان , فماذا عن الدين الإسلامي كاملاً ؟
هذا
السؤال ليس من أجل إيجاد نوافذ تشكيك في الدين الإسلامي أو حتى في صورته الحالية
على الأقل , بقدر ما هو محاولة لقدح الذهن للتأمل – بعض الشيء – في مآلات الفلسفة
الإسلامية الكبرى كما جاءت في تلك النسخة الأولى من إسلام ما قبل المذاهب , في محاولة
للبحث عن صورة ما لتلك النسخة المفقودة , وكيف ذابت لصالح جزئيات مذهبية مشغولة
بقضاياها .
إن فلسفة
أي مذهب من مذاهب الإسلام اليوم ما هي إلا ( ردّة فعل ) تجاه فلسفة مذهب آخر , أو
تجاه فكرة سياسية , أو تجاه أشخاص , وجذور أي مذهب ومنشؤه يكشف فوراً أنه مجرد
ردّة فعل وقتية , ولكن كُتب لها الاستمرار مع استمرار ذات العوامل المغذية له
أيديولوجياً .
وسط هذه
المتواليات من ردّات الفعل التي كوّنت في النهاية مذاهب متعددة بتعدد تلك المواقف
الضدّية بين المسلمين في فترات تاريخية سابقة , ضاعت تلك الفلسفة الكليّة للدين
الإسلامي وتفرّق دمها بين مذاهب فرعية وجزئيات تسلّقت الحديث النبوي والتفسير
والسيرة ورسّخت أيديولوجيتها , فجاء الدين الإسلامي في صورة تلك المذهبية الضيقة مُختزلاً
ذا وجه محدد بحسب بلد وثقافة المنشأ , كما جاء متضاداً في معطياته بين مذهب وآخر ,
وبين بلد وبلد آخر , بين ثقافة وأخرى .
في إطار
المذهب الواحد , جاءت الاختلافات بين زمن وآخر , وبين مكان وآخر , الزمان والمكان
هنا كانا ضمن عوامل التعرية التي أثّرت في تماسك المذهب الواحد , فلم يصمد , فما
الذي يمكن أن نقوله عن دين أشمل يضم جزئية ذلك المذهب وضدّها , يحتوي تلك الثقافة
ونقيضها , يتضمن ذلك البلد الإسلامي وعدوّه من البلاد ( الإسلامية ) الأخرى ؟
في
نقاشات الدين والهوية تختلط الكثير من التصورات التي أضيفت لاحقاً وترسّخت –
لتراكمها الزمني – كجزء من بنية تلك الهوية وذلك الدين , ونحن هنا لا نناقش
اختلافات في فروع الفقه البسيطة كالتي بين الشوافع والمالكية في مسائل لا تذكر, بل
اختلافات جذرية كليّاً طفحت في داخل المذهب الواحد , كالذي حصل بين الحنابلة
الأوائل أنفسهم في مسائل التجسيم والإثبات مثلاً , أو كالتي بين حنابلة بغداد
الذين كانوا يتبركون بقبر أحمد بن حنبل وبين حنابلة دمشق الذين جاؤوا في زمن لاحق !
إنها اختلافات تؤسس لما بعدها , وتبني تاريخاً قادماً , وتشكّل مسارات جديدة , هذا
داخل المذهب الواحد , فكيف بدين كامل أوسع في كافة العناصر الجغرافية والتاريخية
والأنثروبولوجية !
الغريب في
الأمر أن المذاهب يحصل لها مختلف التغييرات التي تعطف من مساراتها ماعدا أن يحصل
لها المراجعة الحرّة والشجاعة لأخطائها أو أن تمارس النقد الذاتي التصحيحي , ومتى
ما كانت هذه الفضيلة ديدناً للمذاهب الإسلامية اليوم فحينها يمكن أن تكون هناك
عودة حقيقية أو ( اقتراب ) بشكل أو بآخر من تلك النسخة الأولى من الإسلام , وحينها
يمكن أن نصدق هكذا شعار ( لن تقوم للأمة قائمة إلا بالعودة إلى دينها ) , وبدون
ذلك فأي دين يمكن العودة إليه ؟
المتمذهب
نفسه لا يمكن له أن يعود إلى نسخته الأولى التي نشأ عليها مذهبه , فكيف سيعود إلى
ما فوق أدبيات المذهب من مشتركات وقيم أخرى كانت هي نفسها سبباً في قيام مذهبه ؟
وفق مبدأ
المراجعة التاريخية والتصحيح المفترض , يمكن جداً القفز على كلّ ركام التاريخ ؛ من
أجل البدء في طريق المستقبل الجاد الذي لم يعد مستساغاً فيه العيش وفق ذات المضغ
القديم لذات الأدبيات الغارقة في جزئيات التفريق والكراهية ضد الآخر . حقّاً نريد
أن نعيش مثل غيرنا من أمم الأرض !
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق