المصطلحات .. وذكاء الانسجام
لو رجعنا إلى ستينيات القرن الماضي , حين استضافت المملكة بعض رموز (
الإخوان المسلمون ) , وتأملنا كيف درجت الأفكار الإخوانية بسرعة , سنعرف
أنه لم يكن في مقدور حركة كـ ( الإخوان المسلمون ) أن تنشأ بشكل علني في التربة السعودية
لو بقيت محافظة على شعارها وحركيتها كحزب يسوّق نفسه على أنه حزب إسلامي يحمل الشعار
( وأعدّوا ) , كما في مصر وبقية البلدان العربية التي قد تسمح البيئات السياسية بفكرة
التحزب حتى مع وجود الحظر الرسمي للحزب في تلك الدول .
حين قدم رموز ( الإخوان المسلمون ) إلى
المملكة رأوا أن يتم تحسين صورة هذه ( المرجعية ) الفكرية اجتماعياً ودينياً أيضاً
, فكان ابتكار مصطلح ( الصحوة ) , كشعار رسالي مخفف من حمولة الدلالة الحزبية للمصطلح
, ويحمل قيمة دينية مستساغة في بيئة سلفية , ذات الخصومة التاريخية مع منهج
الإخوان , وفي نفس الوقت لا يوحي المصطلح بأي سياق حزبي سياسي يمكن أن يشكّل قلقاً
للسلطات .
هذا الدرس التاريخي نفسه , لو استفاد منه الليبراليون وطرحوا مصطلحاً مخففاً
من الغرابة والغموض , كالتنوير مثلاً , لكان
لحراكهم فعالية أكبر في مجتمع لا يستسيغ بسهولة قبول الاصطلاحات ذات الجذور الغربية
, أو القادمة من خارج الحدود بشكل عام . الإصرار على تسويق حِرفية المصطلحات كما هي
, دون مراعاة التربة التي يراد استنباتها فيها
سيجعل الفشل نهاية محتومة لتلك الأيديولوجية التي تندب حظها في كلّ مرّة مع حالة الوعي
الجمعي , دون أن تتعلم هي نفسها أبجديات التحرك الاستراتيجي كما تفرضه جغرافية الواقع
.
الاصطلاحات مهمّة جداً , خصوصاً في بيئة سياسية تكون سلطتها مركزية , ففي مثل
هذا الواقع السياسي والثقافي سيكون أي مصطلح دالّ على تحزّب صريح غير مأمون مستقبلاً
, فأي سلطة سياسية في العالم الثالث يمكن لها الاستفادة من تيّار معين بشكل مرحلي
, وبكل سهولة سيتحول هذا التيّار إلى خصم للسلطة مع تغيّر وتبدّل الظروف السياسية المختلفة
.
وباعتقادي أن هذه الفطنة ( السياسية ) كانت
حاضرة عند رموز الإخوان الأوائل في المملكة , وفيما يشبه ( التنبؤ ) بالمستقبل , تمّ
الاستغناء عن الاصطلاح الدالّ على التجمّع الحاضن لوجودهم , وتبنّي مصطلح جديد ذي دلالة
متملّصة من أي عبء سياسي أو ديني / عقدي , وهكذا تمّ ضرب إجراءين وقائيين بحجر واحد
( إجراء وقائي سياسي , وإجراء وقائي ديني ) , إضافة إلى المكسب الاجتماعي بتحقيق عنوان
دعائي فعّال يصلح تسويقه في مجتمع لا يستسيغ فكرة التحزبات بالفطرة .
ليس مهمّاً المصطلح , بقدر ما يهمّ نشر جوهر ما يدعو إليه المصطلح , وعندي
ليست العلمانية مهمّة كمصطلح , ولكن يهمّ عندي أن يتحقق فصل الاجتهادات المذهبية
والآراء الفقهية الحنبلية عن الحياة العامة , فتحكيم محددات المذهب واجتهاداته
وتصوراته لا يعني أنه تمّ تحكيم الشريعة الإسلامية بنجاح !
كما أنه لا يهمني اصطلاح الليبرالية , ولكن يهمني تحقيق الحريات
والحقوق الفردية والاجتماعية , ومبادئ العدالة , تماماً كما لا تهمني الاشتراكية ,
ولكن يهمني أن يكون هناك قدر – ولو ضئيل – من التوزيع العادل للثروة , وتحقيق شيء
من مبادئ المساواة .
هذه القيم السابقة – برأيي – أنها هي ( الصحوة ) الحقيقية لأي مجتمع ,
وهي المؤشر لمدى صحوة أو ( غفوة ) ذلك المجتمع في مستويات المادة النقاشية التي
يتعاطاها أقطاب الصراع في هذا المجتمع , وليست تلك القيم التي تنحصر في تفاصيل
نقاش لباس المرأة وحضورها في الحياة العامة , ومدى خطورة تلك المرأة على الأمن
القومي والسلم الأهلي والمصير المرتقب !
وعلى كل حال , فالحديث عن نجاح التسويق الدلالي لأي مصطلح يجعلنا نعيد
التأمل في عدة عناصر استراتيجية عملت على ذلك النجاح , وهذا ما يُفترض بتيار
التنوير الآن بكل أطيافه إعادة تأمل ماضينا المنظور بكلّ ما فيه , واستخراج الدروس
, خصوصاً وأننا لم نعد في مرحلة حادّة الانعطاف فحسب , بل تجاوزنا وأصبح المنعطف
خلفنا فعلاً .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق