الجمعة، 10 أبريل 2015

المصطلحات .. وذكاء الانسجام

المصطلحات .. وذكاء الانسجام


   لو رجعنا إلى ستينيات القرن الماضي , حين استضافت المملكة بعض رموز ( الإخوان المسلمون ) , وتأملنا كيف درجت الأفكار الإخوانية بسرعة , سنعرف أنه لم يكن في مقدور حركة كـ ( الإخوان المسلمون ) أن تنشأ بشكل علني في التربة السعودية لو بقيت محافظة على شعارها وحركيتها كحزب يسوّق نفسه على أنه حزب إسلامي يحمل الشعار ( وأعدّوا ) , كما في مصر وبقية البلدان العربية التي قد تسمح البيئات السياسية بفكرة التحزب حتى مع وجود الحظر الرسمي للحزب في تلك الدول .

حين قدم رموز ( الإخوان المسلمون ) إلى المملكة رأوا أن يتم تحسين صورة هذه ( المرجعية ) الفكرية اجتماعياً ودينياً أيضاً , فكان ابتكار مصطلح ( الصحوة ) , كشعار رسالي مخفف من حمولة الدلالة الحزبية للمصطلح , ويحمل قيمة دينية مستساغة في بيئة سلفية , ذات الخصومة التاريخية مع منهج الإخوان , وفي نفس الوقت لا يوحي المصطلح بأي سياق حزبي سياسي يمكن أن يشكّل قلقاً للسلطات .

    هذا الدرس التاريخي نفسه , لو استفاد منه الليبراليون وطرحوا مصطلحاً مخففاً من الغرابة والغموض , كالتنوير مثلاً ,  لكان لحراكهم فعالية أكبر في مجتمع لا يستسيغ بسهولة قبول الاصطلاحات ذات الجذور الغربية , أو القادمة من خارج الحدود بشكل عام . الإصرار على تسويق حِرفية المصطلحات كما هي ,  دون مراعاة التربة التي يراد استنباتها فيها سيجعل الفشل نهاية محتومة لتلك الأيديولوجية التي تندب حظها في كلّ مرّة مع حالة الوعي الجمعي , دون أن تتعلم هي نفسها أبجديات التحرك الاستراتيجي كما تفرضه جغرافية الواقع .

    الاصطلاحات مهمّة جداً , خصوصاً في بيئة سياسية تكون سلطتها مركزية , ففي مثل هذا الواقع السياسي والثقافي سيكون أي مصطلح دالّ على تحزّب صريح غير مأمون مستقبلاً , فأي سلطة سياسية في العالم الثالث يمكن لها الاستفادة من تيّار معين بشكل مرحلي , وبكل سهولة سيتحول هذا التيّار إلى خصم للسلطة مع تغيّر وتبدّل الظروف السياسية المختلفة .

وباعتقادي أن هذه الفطنة ( السياسية ) كانت حاضرة عند رموز الإخوان الأوائل في المملكة , وفيما يشبه ( التنبؤ ) بالمستقبل , تمّ الاستغناء عن الاصطلاح الدالّ على التجمّع الحاضن لوجودهم , وتبنّي مصطلح جديد ذي دلالة متملّصة من أي عبء سياسي أو ديني / عقدي , وهكذا تمّ ضرب إجراءين وقائيين بحجر واحد ( إجراء وقائي سياسي , وإجراء وقائي ديني ) , إضافة إلى المكسب الاجتماعي بتحقيق عنوان دعائي فعّال يصلح تسويقه في مجتمع لا يستسيغ فكرة التحزبات بالفطرة .

ليس مهمّاً المصطلح , بقدر ما يهمّ نشر جوهر ما يدعو إليه المصطلح , وعندي ليست العلمانية مهمّة كمصطلح , ولكن يهمّ عندي أن يتحقق فصل الاجتهادات المذهبية والآراء الفقهية الحنبلية عن الحياة العامة , فتحكيم محددات المذهب واجتهاداته وتصوراته لا يعني أنه تمّ تحكيم الشريعة الإسلامية بنجاح !

كما أنه لا يهمني اصطلاح الليبرالية , ولكن يهمني تحقيق الحريات والحقوق الفردية والاجتماعية , ومبادئ العدالة , تماماً كما لا تهمني الاشتراكية , ولكن يهمني أن يكون هناك قدر – ولو ضئيل – من التوزيع العادل للثروة , وتحقيق شيء من مبادئ المساواة .

هذه القيم السابقة – برأيي – أنها هي ( الصحوة ) الحقيقية لأي مجتمع , وهي المؤشر لمدى صحوة أو ( غفوة ) ذلك المجتمع في مستويات المادة النقاشية التي يتعاطاها أقطاب الصراع في هذا المجتمع , وليست تلك القيم التي تنحصر في تفاصيل نقاش لباس المرأة وحضورها في الحياة العامة , ومدى خطورة تلك المرأة على الأمن القومي والسلم الأهلي والمصير المرتقب !


وعلى كل حال , فالحديث عن نجاح التسويق الدلالي لأي مصطلح يجعلنا نعيد التأمل في عدة عناصر استراتيجية عملت على ذلك النجاح , وهذا ما يُفترض بتيار التنوير الآن بكل أطيافه إعادة تأمل ماضينا المنظور بكلّ ما فيه , واستخراج الدروس , خصوصاً وأننا لم نعد في مرحلة حادّة الانعطاف فحسب , بل تجاوزنا وأصبح المنعطف خلفنا فعلاً .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق