في الوعي السلفي يتخذ
مفهوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر صورة مغايرة عن ذات المفهوم في مذاهب
ومدارس إسلامية أخرى , وحين ترفع هيئة الأمر بالمعروف مثلاً شعارها التسويقي ( خير
أمة ) فهي سوف ترسم بذلك الشعار تلقائيا حدود تلك الخيرية في الأذهان , فتربطها
مباشرة بمفاهيم الطهرانية الفردية , أو التنقية السلوكية للفرد ؛ من أجل تبرير مهمّتها
البوليسية التي تقوم بها في ملاحقة تلك ( المنكرات ) المتعلقة بالأفراد , وتحثّهم
على تلك التنقية الضرورية من تلك المنكرات , في حين أن تلك المنكرات غير مستقرّة , وبالإمكان إضافة أو حذف أي ( منكر ) ضمن
القائمة الطويلة التي تقوم الفتاوى السلفية بتحديثها باستمرار , وتتعهدها
باستراتيجية ( سدّ الذرائع ) .
وكما ذكرت أعلاه , فتلك
الصورة ما هي إلا صورة واحدة تقدّمها السلفية والمذهب الحنبلي عموماً في تفسير
مفاهيم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر , والأمر يختلف كلياً في مذهب آخر , فعند
المعتزلة مثلاً تقوم فلسفة الأمر بالمعروف على محورية ( المعارضة السياسية ) فنجد
أن تفسيرهم للمعروف والمنكر يتعلق بالسلوك السياسي , فيتم ( تغيير المنكر ) لديهم
أو ( ممارسة الاحتساب ) تجاه المنظومة السياسية ( ولي الأمر ) دون أن يُعطوا كثير
اهتمام لمنكرات الأفراد , أي أن الأمر بالمعروف لديهم يكون باتجاه تقويم الأداء
العام للحاكم , وليس باتجاه الفرد .
حسناً .. سنترك
المذاهب العقدية , ولنأخذ مذهباً فقهياً في إطار الطائفة السنّية نفسها , أو حتى
طائفة أهل الحديث أنفسهم , فعند الشوافع مثلاً يختلف كذلك المعروف والمنكر , وفي
هذا السياق يحدثنا ابن الأثير في كتاب ( الكامل في التاريخ ) عن فتنة الحنابلة في
بغداد ,. يقول ابن الأثير :
(( ذِكْرُ
فِتْنَةِ الْحَنَابِلَةِ بِبَغْدَاذَ :
وَفِيهَا
عَظُمَ أَمْرُ الْحَنَابِلَةِ، وَقَوِيَتْ شَوْكَتُهُمْ، وَصَارُوا يَكْسِبُونَ مِنْ
دُورِ الْقُوَّادِ وَالْعَامَّةِ، وَإِنْ وَجَدُوا نَبِيذًا أَرَاقُوهُ، وَإِنْ وَجَدُوا
مُغَنِّيَةً ضَرَبُوهَا وَكَسَرُوا آلَةَ الْغِنَاءِ، وَاعْتَرَضُوا فِي الْبَيْعِ
وَالشِّرَاءِ، وَمَشَى الرِّجَالُ مَعَ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ، فَإِذَا رَأَوْا
ذَلِكَ سَأَلُوهُ عَنِ الَّذِي مَعَهُ مَنْ هُوَ، فَأَخْبَرَهُمْ، وَإِلَّا ضَرَبُوهُ
وَحَمَلُوهُ إِلَى صَاحِبِ الشُّرْطَةِ، وَشَهِدُوا عَلَيْهِ بِالْفَاحِشَةِ، فَأَرْهَجُوا
بَغْدَاذَ.
فَرَكِبَ
بَدْرٌ الْخَرْشَنِيُّ، وَهُوَ صَاحِبُ الشُّرْطَةِ، عَاشِرَ جُمَادَى الْآخِرَةِ
( سنة 323هـ ) وَنَادَى فِي جَانِبَيْ بَغْدَاذَ، فِي أَصْحَابِ أَبِي مُحَمَّدِ الْبَرْبَهَارِيِّ
الْحَنَابِلَةِ، أَلَا يَجْتَمِعُ مِنْهُمُ اثْنَانِ وَلَا يَتَنَاظَرُوا فِي مَذْهَبِهِمْ،
وَلَا يُصَلِّي مِنْهُمْ إِمَامٌ إِلَّا إِذَا جَهَرَ بِبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ
الرَّحِيمِ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ وَالْعِشَاءَيْنِ، فَلَمْ يُفِدْ فِيهِمْ، وَزَادَ
شَرُّهُمْ وَفِتْنَتُهُمْ، وَاسْتَظْهَرُوا بِالْعُمْيَانِ الَّذِينَ كَانُوا يَأْوُونَ
الْمَسَاجِدَ، وَكَانُوا إِذَا مَرَّ بِهِمْ شَافِعِيُّ الْمَذْهَبِ أَغْرَوْا بِهِ
الْعُمْيَانَ، فَيَضْرِبُونَهُ بِعِصِيِّهِمْ، حَتَّى يَكَادَ يَمُوتُ...)) الكامل في التاريخ,ابن الأثير ج8ص307
وقد تكشف لنا تلك
الحادثة أيضاً أجواء التعددية المذهبية في بغداد آنذاك , والتي لم يستطع الحنابلة –
كما بيّنت القصة – تحمّل أو استساغة ذلك التنوّع
, إلا أن ما نحن بصدده هنا هو تلمّس جذور مفاهيم المنكر في إطاره المحدد
بالصبغة المذهبية والتي تمت صياغة مفاهيمها تلك بصورة حاسمة ؛ ليصبح بعد ذلك من
ينتقد ذلك الأداء الاحتسابي ( المذهبي بطبعه ) منتقداً للإسلام بأكمله !
وعليه فإننا نتساءل
الآن , من هي ( خير أمّة ) أخرجت للناس , إذا كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
تختلف فيه هذه الأمة داخلياً ؟ وهل يحق لنا أن نتصوّر أن الأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر – في هذا الزمن – سيحقق لنا إنجازاً يدفع بتلك ( الخيرية ) لتصنع لنا نهضة
شاملة تضعنا فعلياً في موضع ( خير أمة ) على وجه الأرض ؟
السؤال الأخير بالذات
سببه هو أن اختلافاً عميقاً في تلك المفاهيم علينا أن نضعه في اعتبارنا أثناء حسم
هكذا شعار ( خير أمة ) , لنتساءل بعد ذلك : ما هو المعروف وما هو المنكر اللذان
يمكن لنا أن نمارس بشأنهما ما يدفعنا لنكون بمستوى ذلك الشعار عملياً ؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق