لا يمكن لتنمية تسير بخطوات وثّابة دون تنمية موازية لها في مستوى
الإنسان وتثقيفه وتوعيته بالمفاهيم الضرورية للسلوك الحضاري الذي يمكن أن يدعم تلك
التنمية ويدفع بها ويساهم في نجاحها فعلياً , وهذه التنمية ( الإنسانية ) لا يمكن
لها أن تنجح إذا كانت جزيئة تمارس بمحاذير صنعها العقل التقليدي ذو النظرة
الأحادية .
لو أخذنا الفنون كأحد أهم الروافد في التنمية الإنسانية منذ فجر
التاريخ , فإنه من المؤسف أن يكون العداء للفنون يتجاوز إلى حدّ ابتكار الأكاذيب
التي تربط بين الفنون والأمراض النفسية , في حين أن الدراسات الرصينة تقول عكس ذلك
تماماً , والمؤسف أكثر هو أن يصل ذلك الموقف الرافض للفنون إلى منع الأطفال الصغار
من الرقص أو الاستمتاع بأغانيهم الطفولية في التلفاز , وأعتقد أنها جريمة بحق
الطفولة , فالمرح والابتهاج والرقص هي أيقونات طفولية لابدّ أن يمارسها الطفل في
مراحل حياته الأولى , وأي عملية قمع لتلك ( الفطرة ) الإنسانية في نفس الطفل سيكون
لها أثرها الذي قد نشاهد بعض مخرجاته في سلوكيات المراهقين اليومية .
حين تُقمع تلك البهجة في نفس الطفل ستتجه مشاعره وتصوراته إلى الجفاف
الإنساني تلقائياً ؛ كون أن المغذّي لتلك المادّة الإنسانية , والتي تعدّ الفنون
أبرز أشكالها , سيستبدل تلقائياً بالبديل الغرائزي الذي لن يخضع لأية قيم رفيعة
تُضفي اللمسات التهذيبية للمشاعر الإنسانية في تلك السنّ المبكرة , وبالتالي ستحلّ
السلوكيات السيئة ذات الدافع الغرائزي فوراً في مساحة تلك الطاقة المتوثبة التي لا
يمكن أن تبقى فارغة في تلك السنّ التي تتسم بالديناميكية الحركية والوجدانية
السريعة وغير المستقرّة , والتي يمكن للفنون - كصيغة تربوية في سياق بناء الوعي
وتنشئة السجايا - أن تعمل على ضبط تلك الغريزة منذ البداية بتأثيرها الملموس في
تشريب الوجدان والمشاعر بالكثير من التوجيه الإنساني المطلوب نحو تصورات ومسالك
أكثر إنسانية تمنع مستقبلاً من الكثير من الانحرافات .
إن النفس التي تحترف تذوّق الفنون لا يمكن لها مستقبلاً أن تنجرف نحو
قيعان الإرهاب ومسالك العنف ؛ وذلك لأنها مملوءة بالتعمّق الإنساني والوجداني الذي
يعمل على تهذيب الغرائز والنفور من البهيمية في كافة أشكالها التي منها بطبيعة
الحال استساغة القتل وسفك الدماء , تلك البهيمية لن تهذبها المواعظ ولا المناظرات
ولا ( برامج المناصحة ) بقدر ما ستهذبها الفنون – منذ البداية – وتضعها على طريق
الجاهزية للتحضر والاستعداد للتنافس الأممي في عمارة الأرض وبناء الأوطان , وذلك
ببناء الإنسان السويّ والمستقرّ الذي سيكون مستعداً لكل أشكال الإسهام الحضاري
والتنموي .
التصالح مع الفنون ليست مهمّة مستحيلة , يكفي أن يكون هناك وعي
بأهميتها في أذهان المسؤولين , وبالتالي العمل على تسهيل مهمّتها في الحياة , وبعد
ذلك ستقوم هي بالدور المطلوب , أما عن التأثير المرجو للفنون , فيكفي أنها تؤسس عند
الإنسان الوعي بتفاصيل النفس الإنسانية وتقلباتها من الفرح إلى الحزن إلى البهجة ,
وهذا بدوره يساعد الإنسان في فهم ذاته أكثر , مما يعينه على تقييم نفسه في كثير من
الأوقات , بالإضافة إلى الوعي أيضاً بالمشاعر الكامنة التي تستنطقها تلك الفنون في
كافة أشكالها وأنماطها كالرسم والموسيقى والمسرح والسينما والنحت , كما لا يخفى
دورها التثقيفي والتوعوي في إيصال مختلف الرسائل الإيجابية المثمرة .
بلادنا تتجه فعلياً إلى مفاهيم اقتصاد المعرفة , وتسير بخطوات مشاهدة
وواضحة وداعمة نحو هذه المفاهيم , لكني لا أرى أي مسير نحو التنموية الإنسانية
التي تستثمر في بناء الإنسان وتهيئته للعصر ومفاهيمه في مستويات الاستعداد النفسي
لاستيعاب قيم التحضر والسلوك الإنساني , وهذا ما يمكن للفنون أن تقوم به حين يتم
فهم رسالتها الفلسفية الكبرى .
أخيراً , ومع كل هذا , أقدّر وأحترم المنطق الرافض للفنون ( تحت وقع
التأثير الفقهي ) , لكني أطلب منه – برفق – أن يحترم هو أيضاً خيارات الآخرين ,
فدخول أحدهم إلى مقهى يقدّم مادّة موسيقية في تلفازه للزبائن , ثم التدخل بكل
فظاظة بطلب إقفال صوت الموسيقى , فإن ذلك شكل من أشكال انعدام الذوق والاحترام وانتهاك
لإرادة وخيارات آخرين كانوا جلوساً مستمتعين بوقتهم , وهذه الصورة اللاأخلاقية وغيرها
من أشكال الوصاية هي ما نطلب - بكل رجاء - أن يتم التخلّص منها وإدراك بجاحتها .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق