الجمعة، 10 أبريل 2015

العنصر التنموي الغائب


لا يمكن لتنمية تسير بخطوات وثّابة دون تنمية موازية لها في مستوى الإنسان وتثقيفه وتوعيته بالمفاهيم الضرورية للسلوك الحضاري الذي يمكن أن يدعم تلك التنمية ويدفع بها ويساهم في نجاحها فعلياً , وهذه التنمية ( الإنسانية ) لا يمكن لها أن تنجح إذا كانت جزيئة تمارس بمحاذير صنعها العقل التقليدي ذو النظرة الأحادية .

لو أخذنا الفنون كأحد أهم الروافد في التنمية الإنسانية منذ فجر التاريخ , فإنه من المؤسف أن يكون العداء للفنون يتجاوز إلى حدّ ابتكار الأكاذيب التي تربط بين الفنون والأمراض النفسية , في حين أن الدراسات الرصينة تقول عكس ذلك تماماً , والمؤسف أكثر هو أن يصل ذلك الموقف الرافض للفنون إلى منع الأطفال الصغار من الرقص أو الاستمتاع بأغانيهم الطفولية في التلفاز , وأعتقد أنها جريمة بحق الطفولة , فالمرح والابتهاج والرقص هي أيقونات طفولية لابدّ أن يمارسها الطفل في مراحل حياته الأولى , وأي عملية قمع لتلك ( الفطرة ) الإنسانية في نفس الطفل سيكون لها أثرها الذي قد نشاهد بعض مخرجاته في سلوكيات المراهقين اليومية .

حين تُقمع تلك البهجة في نفس الطفل ستتجه مشاعره وتصوراته إلى الجفاف الإنساني تلقائياً ؛ كون أن المغذّي لتلك المادّة الإنسانية , والتي تعدّ الفنون أبرز أشكالها , سيستبدل تلقائياً بالبديل الغرائزي الذي لن يخضع لأية قيم رفيعة تُضفي اللمسات التهذيبية للمشاعر الإنسانية في تلك السنّ المبكرة , وبالتالي ستحلّ السلوكيات السيئة ذات الدافع الغرائزي فوراً في مساحة تلك الطاقة المتوثبة التي لا يمكن أن تبقى فارغة في تلك السنّ التي تتسم بالديناميكية الحركية والوجدانية السريعة وغير المستقرّة , والتي يمكن للفنون - كصيغة تربوية في سياق بناء الوعي وتنشئة السجايا - أن تعمل على ضبط تلك الغريزة منذ البداية بتأثيرها الملموس في تشريب الوجدان والمشاعر بالكثير من التوجيه الإنساني المطلوب نحو تصورات ومسالك أكثر إنسانية تمنع مستقبلاً من الكثير من الانحرافات .

إن النفس التي تحترف تذوّق الفنون لا يمكن لها مستقبلاً أن تنجرف نحو قيعان الإرهاب ومسالك العنف ؛ وذلك لأنها مملوءة بالتعمّق الإنساني والوجداني الذي يعمل على تهذيب الغرائز والنفور من البهيمية في كافة أشكالها التي منها بطبيعة الحال استساغة القتل وسفك الدماء , تلك البهيمية لن تهذبها المواعظ ولا المناظرات ولا ( برامج المناصحة ) بقدر ما ستهذبها الفنون – منذ البداية – وتضعها على طريق الجاهزية للتحضر والاستعداد للتنافس الأممي في عمارة الأرض وبناء الأوطان , وذلك ببناء الإنسان السويّ والمستقرّ الذي سيكون مستعداً لكل أشكال الإسهام الحضاري والتنموي .

التصالح مع الفنون ليست مهمّة مستحيلة , يكفي أن يكون هناك وعي بأهميتها في أذهان المسؤولين , وبالتالي العمل على تسهيل مهمّتها في الحياة , وبعد ذلك ستقوم هي بالدور المطلوب , أما عن التأثير المرجو للفنون , فيكفي أنها تؤسس عند الإنسان الوعي بتفاصيل النفس الإنسانية وتقلباتها من الفرح إلى الحزن إلى البهجة , وهذا بدوره يساعد الإنسان في فهم ذاته أكثر , مما يعينه على تقييم نفسه في كثير من الأوقات , بالإضافة إلى الوعي أيضاً بالمشاعر الكامنة التي تستنطقها تلك الفنون في كافة أشكالها وأنماطها كالرسم والموسيقى والمسرح والسينما والنحت , كما لا يخفى دورها التثقيفي والتوعوي في إيصال مختلف الرسائل الإيجابية المثمرة .

بلادنا تتجه فعلياً إلى مفاهيم اقتصاد المعرفة , وتسير بخطوات مشاهدة وواضحة وداعمة نحو هذه المفاهيم , لكني لا أرى أي مسير نحو التنموية الإنسانية التي تستثمر في بناء الإنسان وتهيئته للعصر ومفاهيمه في مستويات الاستعداد النفسي لاستيعاب قيم التحضر والسلوك الإنساني , وهذا ما يمكن للفنون أن تقوم به حين يتم فهم رسالتها الفلسفية الكبرى .

أخيراً , ومع كل هذا , أقدّر وأحترم المنطق الرافض للفنون ( تحت وقع التأثير الفقهي ) , لكني أطلب منه – برفق – أن يحترم هو أيضاً خيارات الآخرين , فدخول أحدهم إلى مقهى يقدّم مادّة موسيقية في تلفازه للزبائن , ثم التدخل بكل فظاظة بطلب إقفال صوت الموسيقى , فإن ذلك شكل من أشكال انعدام الذوق والاحترام وانتهاك لإرادة وخيارات آخرين كانوا جلوساً مستمتعين بوقتهم , وهذه الصورة اللاأخلاقية وغيرها من أشكال الوصاية هي ما نطلب - بكل رجاء - أن يتم التخلّص منها وإدراك بجاحتها .



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق