الجمعة، 10 أبريل 2015

نورٌ ينبثق من بين الرصاص



ما إن سقط الضحايا في جريمة اقتحام حسينية المصطفى بقرية الدالوة في الأحساء , وقبل أن تنجح قوات الأمن ( بسرعة باهرة ) في القبض على خمسة عشر مجرماً من المتورطين في الحادثة , حتى جاء الرد ( الشعبي ) أقوى تأثيراً وأشدّ وقعاً على دعاة التحريض الطائفي , في مشهد يسجّل لحظة درامية فاصلة في الوعي الشعبي الذي دائما ما تصدق مراهنتنا على حقيقته في مواجهة الغلو والتطرف .

سجلت مواقع التواصل الاجتماعي تآلفاً وتكاتفاً شعبياً غير مسبوق , مع أول شرارة حقيقية أرادت تلك القلوب الصدئة جرّنا وجرّ مستقبلنا إلى نيرانها , فكانت التحركات الشعبية والرسمية والمؤسسية أسرع من أن تمهل تلك الشرارة أن تشتعل , وجاءت المواقف المتضامنة كالرصاص في تلك القلوب , لتعلن بشكل أبهر العالم من حولنا : أن هذا الشعب عصيّ على الاختراق , وأن قدره الأبدي هو هذه الوحدة المقدسة , وأنه شعب قد فطن لمصيره , وعلم أن وحدة ترابه أغلى من أي خطاب مذهبي أو فكري أو عنصري .

يا لروعة اللحظة , ويا لبشاعة الجريمة , ضوء انبثق من بين الدماء والنيران , فغطّى كامل الظُلمة , وأضاء المستقبل , وجسّد لنا المصير , وضحايا أناروا لنا بدمائهم مجال الرؤية , فتنفسنا الصعداء , ورفعنا أكفّ الضراعة لهم بالرحمة والمغفرة , وتألمنا لهم بطعم الراحة , كما تتألم الثكلى لابنها الشهيد بطعم الفخر , شعور ينبثق من خلال شعور , ومستقبل يُضاء من خلال حدث , وأجزم أن هذا شعور أهاليهم أيضاً , تألموا وسط هذه الراحة التي أعقبت تعزيةً شاملة أمطرت على الأحساء بلسان شعب بأكمله , صورة الجسد الواحد , واليد الواحدة , والمصير الواحد المضاء الآن .

لقد آن الأوان أن ننفض عنّا غبار مرحلة سابقة , ونتعلم جيداً من خلال الدروس التي وقعت في دول الجوار ؛ كي نتأمل مآلات اللغة الحمقى , ومُخرجات المنطق الأحادي الأهوج , فنوصل الأجيال إلى مستقبل أكثر استقراراً وأمناً , ونحافظ على الأرض من تحت أرجلنا أن تتصدع فتميد بنا .

أعلمُ جيداً أن هناك فرق بين الخطاب المتورط في حادثة الدالوة , وهو الخطاب التكفيري القاعدي , وبين الخطاب الطائفي التقليدي الذي أدان ( ظاهرياً ) الحادثة ضمن جمهرة اللغة الاستنكارية الشاملة التي لم يستطع أن ينشز عنها وسط كل هذا التوجه نحو فكرة واحدة , نعم هناك فرق , ولكن آن الأوان أن نعي جيداً أن هذا يتغذى من ذاك , وأن أحدهما يمهّد الطريق للآخر , وأن الفتنة ليست فقط بالرصاص , وإنما الكلمة قد تكون طريقاً إلى الرصاص , وقد آن الأوان أن تُطفأ الكلمة المؤدية إلى الفتنة , وتُعلن الكلمة المؤدية إلى التعايش  وتبصّر الطريق الصحيح لمستقبل هادئ نلتفت فيه إلى تحديّات الهمّ النهضوي , ونتنافس فيه مع العالم للوثوب إلى قيم النهضة والتحضر , لا أن ننشغل بمعتقدات الآخرين , ونعود نجترّ تراثاً كان هو نفسه سبب النكسة , والدليل أنه أطاح بمجد الحضارة العربية ومزقها دويلات وطوائف متناحرة , بمجرد أن تركت المشتركات وعملت على توافه الاختلافات !

 وهكذا كانت نهضة أوروبا حين علّمتها الحروب الدينية كيف تتخلى عن انشغالات الدين ؛ للتفرغ للوثبة التي استطاعت بها امتلاك الأرض وما عليها , فهل مطلوب منّا نحن أن نبدأ من الصفر حتى نتعلم ؟

قبل سنوات غرقت جدة , فهبّ شبابٌ من نجران لمشاركة إخوتهم من شباب جدّة في المساعدات وعمليات الإغاثة , بجانب مشاركات متعددة من مناطق أخرى , واليوم تعود لنا الصورة ذاتها , تُجرح الأحساء , فتبادر مكّة وبقية المناطق بتقديم العزاء , وتطبيب الجرح .

شعبٌ كهذا .. متى سوف يتسنّى لدعاة الشحن الطائفي , وأصحاب المخططات المضمرة  أن يلملموا أداوتهم ويرحلوا بعيداً عنه ؟

·      خاتمة :
لا يفوتني أيضاً أن أعزّي أهالي رجال الأمن الذين سقطوا في المواجهة مع العناصر الإجرامية , داعياً لهم بالرحمة والغفران , ولذويهم بالصبر والسلوان .



نشر في نوفمبر 2014

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق