ما إن
سقط الضحايا في جريمة اقتحام حسينية المصطفى بقرية الدالوة في الأحساء , وقبل أن تنجح
قوات الأمن ( بسرعة باهرة ) في القبض على خمسة عشر مجرماً من المتورطين في الحادثة
, حتى جاء الرد ( الشعبي ) أقوى تأثيراً وأشدّ وقعاً على دعاة التحريض الطائفي ,
في مشهد يسجّل لحظة درامية فاصلة في الوعي الشعبي الذي دائما ما تصدق مراهنتنا على
حقيقته في مواجهة الغلو والتطرف .
سجلت
مواقع التواصل الاجتماعي تآلفاً وتكاتفاً شعبياً غير مسبوق , مع أول شرارة حقيقية
أرادت تلك القلوب الصدئة جرّنا وجرّ مستقبلنا إلى نيرانها , فكانت التحركات
الشعبية والرسمية والمؤسسية أسرع من أن تمهل تلك الشرارة أن تشتعل , وجاءت المواقف
المتضامنة كالرصاص في تلك القلوب , لتعلن بشكل أبهر العالم من حولنا : أن هذا
الشعب عصيّ على الاختراق , وأن قدره الأبدي هو هذه الوحدة المقدسة , وأنه شعب قد
فطن لمصيره , وعلم أن وحدة ترابه أغلى من أي خطاب مذهبي أو فكري أو عنصري .
يا لروعة
اللحظة , ويا لبشاعة الجريمة , ضوء انبثق من بين الدماء والنيران , فغطّى كامل
الظُلمة , وأضاء المستقبل , وجسّد لنا المصير , وضحايا أناروا لنا بدمائهم مجال
الرؤية , فتنفسنا الصعداء , ورفعنا أكفّ الضراعة لهم بالرحمة والمغفرة , وتألمنا
لهم بطعم الراحة , كما تتألم الثكلى لابنها الشهيد بطعم الفخر , شعور ينبثق من خلال
شعور , ومستقبل يُضاء من خلال حدث , وأجزم أن هذا شعور أهاليهم أيضاً , تألموا وسط
هذه الراحة التي أعقبت تعزيةً شاملة أمطرت على الأحساء بلسان شعب بأكمله , صورة
الجسد الواحد , واليد الواحدة , والمصير الواحد المضاء الآن .
لقد آن الأوان
أن ننفض عنّا غبار مرحلة سابقة , ونتعلم جيداً من خلال الدروس التي وقعت في دول
الجوار ؛ كي نتأمل مآلات اللغة الحمقى , ومُخرجات المنطق الأحادي الأهوج , فنوصل
الأجيال إلى مستقبل أكثر استقراراً وأمناً , ونحافظ على الأرض من تحت أرجلنا أن
تتصدع فتميد بنا .
أعلمُ
جيداً أن هناك فرق بين الخطاب المتورط في حادثة الدالوة , وهو الخطاب التكفيري
القاعدي , وبين الخطاب الطائفي التقليدي الذي أدان ( ظاهرياً ) الحادثة ضمن جمهرة
اللغة الاستنكارية الشاملة التي لم يستطع أن ينشز عنها وسط كل هذا التوجه نحو فكرة
واحدة , نعم هناك فرق , ولكن آن الأوان أن نعي جيداً أن هذا يتغذى من ذاك , وأن
أحدهما يمهّد الطريق للآخر , وأن الفتنة ليست فقط بالرصاص , وإنما الكلمة قد تكون
طريقاً إلى الرصاص , وقد آن الأوان أن تُطفأ الكلمة المؤدية إلى الفتنة , وتُعلن
الكلمة المؤدية إلى التعايش وتبصّر الطريق
الصحيح لمستقبل هادئ نلتفت فيه إلى تحديّات الهمّ النهضوي , ونتنافس فيه مع العالم
للوثوب إلى قيم النهضة والتحضر , لا أن ننشغل بمعتقدات الآخرين , ونعود نجترّ
تراثاً كان هو نفسه سبب النكسة , والدليل أنه أطاح بمجد الحضارة العربية ومزقها
دويلات وطوائف متناحرة , بمجرد أن تركت المشتركات وعملت على توافه الاختلافات !
وهكذا كانت نهضة أوروبا حين علّمتها الحروب
الدينية كيف تتخلى عن انشغالات الدين ؛ للتفرغ للوثبة التي استطاعت بها امتلاك
الأرض وما عليها , فهل مطلوب منّا نحن أن نبدأ من الصفر حتى نتعلم ؟
قبل
سنوات غرقت جدة , فهبّ شبابٌ من نجران لمشاركة إخوتهم من شباب جدّة في المساعدات
وعمليات الإغاثة , بجانب مشاركات متعددة من مناطق أخرى , واليوم تعود لنا الصورة
ذاتها , تُجرح الأحساء , فتبادر مكّة وبقية المناطق بتقديم العزاء , وتطبيب الجرح
.
شعبٌ
كهذا .. متى سوف يتسنّى لدعاة الشحن الطائفي , وأصحاب المخططات المضمرة أن يلملموا أداوتهم ويرحلوا بعيداً عنه ؟
·
خاتمة :
لا
يفوتني أيضاً أن أعزّي أهالي رجال الأمن الذين سقطوا في المواجهة مع العناصر
الإجرامية , داعياً لهم بالرحمة والغفران , ولذويهم بالصبر والسلوان .
نشر في نوفمبر 2014
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق