مدخل :
تكتب كلمة ( هيأة ) بهذا الشكل قياساً على القاعدة , وليس كالكتابة
الدارجة ( هيئة ) التي تعتبر من الأخطاء الشائعة . ومع ذلك فسوف نستعمل تلك
الكتابة الدارجة ( هيئة ) , ولن نتعصب للقاعدة الإملائية ؛ مخافة اللبس الذي يمكن
أن يحصل . ونظراً للشيوع والانتشار , فسوف نتماشى مع هذا الدارج ؛ نزولاً عند
الواقع ؛ لأن الهدف هو الوصول إلى ( الفكرة ) مباشرة , وليس الانشغال والإشغال
بتمرير درس لغوي !
لماذا الهيئة ؟
-
لماذا يتم تناول هيئة الأمر بالمعروف دائماً بالنقد والتقييم ؟
- ولماذا الهيئة بالذات – من بين بقية الأجهزة الحكومية - يتم التركيز على أخطائها ؟
-
ولماذا أصبحت الهيئة بين المؤيدين والمعارضين أيقونة مضخمة في التفريق
بين المتدين وغيره ؟
-
ولماذا قسّمت الهيئة المجتمع السعودي إلى فسطاطين أكثر وضوحاً وأعلى
صوتاً : مؤيد بالمطلق رغم الأخطاء , وكاره بالمطلق رغم الإيجابيات ؟
بالمختصر , لماذا الهيئة
بالذات أصبحت جدلاً اجتماعياً وثقافياً وتحاك حولها هالة من التداعيات الدينية
والفكرية , وربما – في نظر أتباعها ومؤيديها – المؤامرات , كما يتصورون . برغم
أنها مجرد جهاز حكومي يعمل في سياق المنظومة البيروقراطية الحكومية ؟
إنه سؤال بات من الجدير
طرحه وقراءته وفق منطق التغيير العنيف الذي يتعرض له وعينا الاجتماعي والثقافي . وبات
علينا الإجابة عن كل نقاط الإثارة وبحثها وكشف جذور مشكلاتنا الأولية لمحاولة
الوصول إلى حقيقة نستفيد من دروسها جيداً ونبني – مستقبلاً – واقعاً أكثر تماشياً
مع الظرف الزمني الملحّ , وأقل وقوعاً في الأخطاء المنطقية , وأقل خسائر أيضا .
هيئة الأمر بالمعروف ليست
كبقية الأجهزة الحكومية الأخرى ! إنها تأخذ مزية خاصة بكونها تطبق مبدأ ( الحسبة )
وفق التفسير السلفي لمفاهيم الاحتساب , وبالتالي فهي تتلقى دعماً إلهياً خاصاً
كونها أصبحت تمثل سُلطة ( الله ) التنفيذية على الأرض , وهذا الأمر يعطيها مزية
خاصة داخل العقل السلفي الذي يقدم هو الآخر تعريفاته وأحكامه المسبقة في توضيح
المعروف والمنكر كما جاءت في المدوّنة السلفية التي تراكمت عبر الزمن , ثم امتزجت لاحقاً ببعض التصورات البيئية الخاصة التي
تعتبر حاضنة تأثير مهمّة على الذين صاغوا تلك المدوّنة ورسموا معالمها . وبالتالي
فإن الهيئة قد تحولت إلى جهاز ( إلهي ) وليس مجرد جهاز حكومي , فالناقد لهذا
الجهاز – وفق البرمجة الثقافية – سيرى أنه
ينتقد أحكاماً إلهية , والمؤيد لهذا الجهاز قد يرى نفسه أنه يدافع عن ( الله ) في
أرضه , وفق تلك البرمجة نفسها .
هكذا تحول الوعي بالهيئة
, حين تم جرّ القيم والمبادئ المذهبية وإقحامها في مفهوم الاحتساب , وتحميل الدين
الإسلامي حُمولة تلك الآراء والاجتهادات التي تحولت إلى مادة عمل لهذا الجهاز وصاغت
المبرر لوجوده . وبدون تلك الآراء المذهبية الخاصة لن يكون لهذا الجهاز أي مبرر
للوجود . فدوره الأمني والأخلاقي بإمكان الشرطة والأجهزة الأمنية الأخرى القيام به
على أتم وجه . لكن وجود هذا الجهاز ودوره
المذهبي على الفضاء الاجتماعي هو نوع من المحاصصة وتقاسم النفوذ , لتظل المنظومة
الوهابية – الشريك الشرعي في الحكم -
بعيدة عن التعاطي مع شؤون السياسة .
المهم في الموضوع هو أنه
حينما يتعاطى الناس مع أخطاء الهيئة / الجناح التنفيذي للقيم السلفية , فإن ذلك
نابع من شعور جمعي باختطاف السماحة الدينية للإسلام وإلباس تلك الأخطاء الميدانية
اللبوس الديني , وإرهاق الدين بتلك الاجتهادات المذهبية . وفي نفس اللحظة , يشعر
مؤيدو هذا الجهاز أن الحديث عن أي ( خطأ ) هو تمرد على ( الإسلام ) , وأن هذا
النقد الموجه مهما كان موضوعياً يخفي حالة من الكراهة المبطنة للدين بأكمله ,
ودعوة إلى ما يسمى بالتغريب والعلمنة , في حين أن بعض ذلك ( التغريب ) الموصوف ما
هو إلا خروج عن القيم السلفية الخاصة إلى قيم إسلامية أكثر اتساعاً ومرونة ,
كالحديث عن شكل حجاب المرأة , وسماع الموسيقى , وكذلك إغلاق المحلات التجارية
والصيدليات والمحطات على طرق السفر وقت الأذان وتعطيل مصالح العباد والمرضى
والمسافرين . فهذه الأشياء لا ترقى إلى أن تصبح أيقونات ( تغريبية ) تفصل المجتمع
عن دينه وقيمه وهويته عند الحديث عنها . إلا إذا كانت تلك القيم المقصودة – وهذه هي الحقيقة – مجرد قيم مذهبية ,
وتصورات بيئية معينة يراد تعميمها على بقية أرجاء الوطن , وإجبار مختلف الشرائح
الاجتماعية على القبول بها , وفي واقع زمني مختلف تماماً قد فرض ظروف التغيير العنيف حتى على أبناء البيئات
المنتجة لتلك القيم في السابق . وليس أدلّ من قضية عمل المرأة وما أحدثته من
انفصام عنيف داخل نفسيات الكثيرين , بين واقع اقتصادي جديد ومرهق , وبين محددات
تربوية مسبقة , أفرز كل ذلك حالة من التخبط
في توزيع الخيارات عند الفرد والمجتمع على السواء .
لهذا السبب , فحين تكون
الهيئة جهازاً يسلط عليه الضوء , فهذا نابع من كونه يتحدث باسم الدين , أو هكذا
يقدم نفسه . وكون أن هذا الدين هو مشترك جمعي بين كل مكونات المجتمع , فمن المنطقي
أن يتشارك الجميع في نقد من يتحدثون باسمهم . وليس لمؤيدي الهيئة بأخطائها أن يتبرّموا
من النقد الموجه ؛ كون أن معهم آخرين يتشاركون في هذه (المرجعية) التي تضم الجميع والتي
تتحدث الهيئة وتعمل باسمها . ومن هذا المنطلق أيضاً دخلت الهيئة إلى دائرة الضوء
الإعلامي , وأصبح الجميع يناقش من مبدأ مناقشة الهوية , وهذا حق من حقوق الأمة ,
فلماذا تغضب منظومة الهيئة ومؤيدوها ؟
وهذا الذي يفسر عدم
التركيز على بقية الأجهزة الخدمية ولا حتى الأمنية الأخرى .. فلم يرفع أي جهاز
حكومي شعاراً ثقيلاً كالإسلام والفضيلة سوى جهاز الهيئة , وعليه أن يتحمل كل هذه
الحمولة الاسمية بتحمل تبعات المواجهة النقدية والإعلامية التي يهمها كثيراً هذا
الاسم الذي يشترك فيه الجميع . ولن أبالغ إذا قلت إن أكثر هذا النقد الموجه لأداء
هيئة الأمر بالمعروف هو غيرة وحرقة دينية تنطلق من مجموعات ثقافية أو شبابية تتفوق
كثيراً في مستوى الإدراك المعرفي والديني على الكثير من أعضاء ومؤيدي جهاز الهيئة
!
أعتقد أنه بات من
الضروري تسمية الأشياء بأسمائها , وبالتالي فإن أي حديث عن دور الهيئة يجب أن
ينعكس في الوجدان الجمعي أنه دور مذهبي وليس دينياً , وأن هذا الدور يمكن نقده
ومناقشته في إطار النقد الذاتي الحر والبعيد عن الإملاءات الخارجية , لأننا لو لم
نقم بذلك , فالنتيجة ستنعكس سلباً ليس فقط على تسويق هذا الدين عالمياً – وهذا ما
نراه في تسمية الغرب لهذا الجهاز بالشرطة الدينية , والسلبية الفاضحة التي ظهر بها
– وإنما ستكون النتائج داخلياً بخروج جيل جديد من الملحدين ممن يرون هذه النسخة
فقط من الدين , والذين بالطبع سوف يتعرضون – في زمن التواصل وكسر الحواجز - إلى
الاعتقاد بأن هذا الدين المبرمج لا يمكن أن يكون صالحاً للعيش به في عالم متغير
ومتسارع , ووصل إلى ما وصل إليه في مفاهيم النهضة والتنمية وحقوق الإنسان في الشرق
والغرب.
إنها دعوة حرّة من أعماق الضمير الموجوع
بواقع الحالة : أن نباشر التصحيح الذاتي الحرّ لمنظومة أنتجت وسوف تنتج , بنمطية
تعاطيها مع الواقع , المزيد من الانحراف السلوكي والفكري , بقصد أو بدون قصد . على
أن يشترك الجميع في هذا التصحيح , فمن رسم سياسة ومجال عمل منظومة الهيئة منذ
البداية ليس متوقعاً منه أن يغير كثيرا في استراتيجية عملها . فيجب أن يدخل
المثقفون على الخط , وكذلك المختلفون من مذاهب أخرى , من أجل إنتاج تصحيح وطني حرّ
يؤسس ويبني لمستقبل أفضل !
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق