الأربعاء، 27 مارس 2013


الحاجة إلى الفنون

إن الفنون ليست من قبيل التسلية أوالترف الذي قد يتوهمه البعض حاجة ً ثانوية تأتي بعد الأسس المعرفية الأولى .. بل تكاد تكون من الأسس التربوية الأولى التي يجب أن يُلفت لها حسّ الناشئة والأطفال ليتم بناء ذواتهم ووجدانهم على الجمال وتذوقه !

 

إن أي مجتمع لا تأخذ فيه الفنون مكانها الرفيع من الاهتمام فإن ذلك المجتمع سيعاني معاناة شديدة في مجال التربية , لأن الفراغ الوجداني الذي يجب أن تملأه الفنون ستملؤه سلوكيات أخرى تفتقد للتهذيب والحس المسؤول .. وهذا ما نراه في مجتمعنا ماثلاً خصوصاً عند طلاب المرحلتين المتوسطة والثانوية وما نشاهده من تصرفات لا يمكن أن تنطلق إلا من ذلك الفراغ الوجداني والذوقي الهائل , وضعف التربية المدنية التي لم تطرقها قط مؤسسات التربية ؛لانشغالها فيما يبدو بتفقيه النشء وحشو ذهنه بالمسائل المعرفية اللازمة له لينشأ ضمن بنية التفكير الجمعي بدون أن يلتفت لبناء الذات وتهذيبها وتحفيزها على المساهمة والمشاركة في بناء وتطوير وتنمية نفسها وما حولها .

 

الموقف من الفنون يأتي في سياق اجتهادات مذهبية لا يلتزم بها دينٌ كامل يحوي جملة من التنوعات الجميلة بداخله بإمكانها أن تسدّ كل حاجات متبّعيه المختلفين عن بعضهم باختلاف أقاليمهم وثقافاتهم .. ولست بصدد التأصيل الشرعي لبعض الفنون فهو ليس مجالي .. إنما مجالي أبسط بكثير , وهي رؤيتي لطفل صغير يتراقص ابتهاجاً لسماعه موسيقى طفولية , في حين أن : ما من مولود يولد إلا على الفطرة ! أوليس هذا التصرف إذن سيكون من الفطرة ؟

 

بعض الأسر تمارس جريمة بحق أطفالهم حين يمنعونهم من الرقص على أغنية يسمعها الطفل فجأة في التلفاز أو غيره ..إنها جريمة بحق الطفولة وبحق التربية الوجدانية للطفل بحيث يتم مسخ الإنسانية في داخله ..وينشأ كما لو أن الحياة لا لون لها ولا رائحة ولا طعم .. يصادف كل ذلك تربية ضعيفة وتأسيس حضاري هشّ في مؤسسات التعليم وفي المساجد وفي البيوت .. فما أن يصل إلى مرحلة المراهقة حتى يظهر إنساناً تقريبا لا ينتمي لجنس البشر .. متجرداً من كثير من القيم ومن الحس ومن الذوق , فينشأ مسخاً ضرره أكبر من نفعه .. لا يحترم كبيراً ولا يرأف بصغير , ولا تسلم منه المرافق العامة والجدران والشوارع , ويصبح مشروع مجرم صغير يكبر على الإجرام أو أن يصل إلى مرحلة يملّ فيها من كل شيء فيلجأ إلى التدين وفق النموذج الساذج لمفهوم التدين كردّة فعل تلقائية بسبب تأنيب الضمير , فينشأ أيضاً واعظاً مسخاً يمارس نفس التحذير من فنون كان يمكن لها منذ البداية أن تهذب تصرفاته الأولى فتختصر عليه وعلى أهله الكثير من هذا الطريق الموحش !!

 

لا يمكن أن نكذّب كل تلك الدراسات الحديثة التي تثبت جدوى الفنون في تنمية الحسّ والوجدان وأثرها الإيجابي في بناء الذات وترويض العقل على الرقيّ والتوازن النفسي . لا يمكن أن أكذّب كل ذلك في مقابل اجتهادات مذهبية لها أفهامها الخاصة ولها ما يخالفها ويفوقها قوة وحجة وبرهاناً واحتراماً للعقل الذي سيبدأ تلقائياً بالمقارنة والتساؤل عن أثر نغمة جميلة أو لوحة تشكيلية , والخطورة التي يمكن أن تشكلها تلك الجماليات على العقيدة والدين ؟؟

 

لابد من معرفة أثر ما يسمى بالإيحاء الذاتي , الذي يحاول الإنسان معه أن يوجد مخرجاً عقلياً بين ما يتلقاه وما يظهر أمامه من بدهيات , ليحوّر تلك البدهيات المنطقية إلى متوائمات تتسق مع ما يتلقاه , فيبدأ بإقناع نفسه أن القرآن لا يمكن أن يحفظ مع سماع الغناء !! ورغم أنني شخصياً أستطيع أن أحفظ الآيات القرآنية في وقت وأسمع الغناء في وقت آخر ولا أجد بين كل ذلك أي تناقض والحمد لله ,إلا أن الغالبية العظمى من الناس استطاعت أن ترصف أفكارها وقناعاتها بهذه الإيحاءات التي خرجت حتماً من رحم الحيرة بين المتلقّى وبين المنطقيات البدهية التي تبرز فجأة في العقول !!

 

يقول شكسبير : احذر من ذلك الشخص الذي لا يحب الفنون !!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق