السبت، 30 مارس 2013

ساق الغراب .. الرواية حين تؤرشف الهوية !!



 

من الروايات النادرة التي وجدتها تكتبني أنا شخصياً , وتلخّصني من دمائي الممتدة من جبال السروات بعروق الحنين الحارّة إلى وجداني المبثوث بحثاً عن هويةٍ منتهكة وأرضٍ افتُضّت بكارتُها إلى غير رجعة ..

 

إنها ساق الغراب أو ( الهربة ) للصديق يحيى امقاسم الذي أهداني نسخة من الرواية مشكوراً قبل ثلاثة أشهر وتحمّل عناء إرسالها لي على حسابه الخاص , إلا أنني مع زحمة انشغالاتي التي لا تنتهي اضطررت أن أحشر توقيتها بين جملة الكتب التي تصطف أمامي في انتظار لحظات اغتصابها التي أسرقها رغم أعباء الأسبوع , فحين جاء دورها سرقتني هي نفسها من نفسي وأعمالي فأنهيتها في ثلاثة أيام , ليس لجمالها وحبكتها فحسب , فهذا شأن آخر قد يقيّمه من هو أقدر مني على ممارسة النقد السردي وفنونه , ولكن لكونها تكتب جزءاً من الوجدان الجريح , وتُشرّح لحظة الزمن المتوقف منذ أن تغيّر وجه الأرض برداء غير ردائها الذي كانت تتلفع به لمئات السنين !!

 

إن ساق الغراب وهي تحكي جزءاً من تاريخ غفا إلى الأبد لتؤصلُ حكاية الإنسان الذي عاقر هذه الأرض وكان جزءاً منها وهي جزءٌ منه في مشهد عشق سرمدي امتدّ طوال التاريخ لتأتي تلك اللحظة التاريخية التي تخلّى فيها الإنسان عن تلك الأمشاج , فتشي الرواية بذلك الانهيار الوجداني لإنسان تلك الأرض الذي رضي بالذوبان وتخلى عن نفسه ولسانه وردائه ولون بشرته نظير حظوة جديدة أتى بها زمن جديد في واقع جديد انتهك تاريخه وثقافته ولسانه وقصائده وأسماره وعلاقته الفطرية بأبناء وبنات أرضه !

 

الرواية حقيقةَ ليست بدعاً في طرق هذا التاريخ الجنوبي الغائر , فهناك أعمال أخرى تطرقت لشيء من الأرشفة التاريخية في ذلك النسق السردي , كما عند عبدالعزيز مشري رحمه الله وكذلك عبده خال والكثير جداً من المبدعين من تلك المنطقة الذين نقلوا لنا مسرح الماضي أمامنا بكل ركام أوجاعه .. إلا أن ساق الغراب – في تصوري – كانت أكثر تلك الأعمال في الاتكاء على وجع ( الهوية ) المستسلمة والمسلّمة .. تستثير الرواية تفاصيل حركة النزوح الثقافي إلى عقيدة جديدة ومذهب جديد وأشخاص جدد جاؤوا ليفرضوا كل ذلك الإحلال الجديد لزرعٍ جديد استجلب إلى هذه الأرض حتى تبدّل وجهها وبُترت عنها براءتها وإنسانها كذلك , فلم تعد تلك الأرض التي كانت يوماً تُسقى بالدم والدمع والعرق , لم تعد – في وجدان أبنائها بعد ذلك – أكثر من ركام من جهل قديم وخرافة جاء الفاتح الجديد ليضيئها بأنوار علمه ودينه وتقاليده الجديدة , وزرعه الجديد , وفي مشهد تاريخي موجع سلّم الإنسان ناصيته لهذا التغيير , فتغيرت حتى دماؤه فلم يعد ذلك الدم الجنوبي المغلي الذي يثور من كلمة ويسيل من غمزة ويفيض بالحب والفرح والبراءة .. لينقلب إنساناً آخر . يلهث وراء قوته في المدن البعيدة تماماً كالأغراب الذين يجوبون هذا الوطن المكتنز من تحت تحت أرجلهم بالعطاء , بلا أي قيمة للفرح في داخله وبلا أي نكهة للحياة التي ما إن استبدل بزوالها ألوان ملابسه الزاهية بذلك اللون الواحد حتى تبدلت معها حياةٌ كاملة تحولت هي الأخرى للون واحد ونكهة واحدة ونسق واحد من الأفكار والتصورات جعلت أجيالاً متعاقبة يتناسلون بنسخة واحدة في لون واحدة ووجه واحد متشابه بلا ملامح تقريباً !!

 

إن ( الهربة ) التي حكى عنها يحيى امقاسم لم تكن أكثر من ( هربة ) الإنسان من نفسه ودمه وعروقه , هرب هذا الإنسان أيضاً – تحت خديعة كبرى – من جذوره وقطّعها ليكتب بذلك جذوراً جديدة لم تكن هذه الأرض تعرفها يوماً ولأفكار مستوردة لم تكن في عقله منذ أن درج أجداده يحرثون ويزرعون ويقلعون بدماء قلوبهم ومقل أعينهم , فاستُبدلت البذور ببذور , والزرع بزرع آخر , فتغيرت نكهة الخبز , وتبدّلت أغاني الزراعة , فقيل يا سماء أمسكي أقدارك ويا أرضي ابلعي رجالك .. وتبدلّت الحقول إلى ( عثّريات ) لا تنبت غير الشوك والطلح والأثل , وقيل وداعاً لروح قوم طاهرين !!

 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق