نحن دائما ما نرى الثمرة وننسى أن لها جذوراً قد كوّنتها ومدّتها بأسباب
الحياة والنضج . وكثيرا ما نعالج النتائج وننسى الأسباب المولّدة لها . وعليه فقد
نقيس هذا العيب فينا على كل مجالات المعرفة المُدركة التي نتناولها في حياتنا ,
ومن بينها لا شك أسئلة النهضة الكبرى التي تواجه الأزمة لكنها تستحي أن تبحث –تاريخيا-
أسباب وجذور نكستنا اليوم .
تخرج التحليلات المؤدلجة كلّ واحدة تجيب عن السؤال خدمة ً لمنطلقاتها , فمنها
ما يرى أسباب التخلف في ضعف الوازع الديني ومنها ما يراه بسبب الاستعمار والتبعية
الإمبريالية ومنها ما يرى التخلف بسبب سيطرة الطبقات المخملية ...إلخ , إلا أن
واحدة من تلك الأيديولوجيات – المشغولة ببعضها – لم تجب بجرأة وثبات أن المشكلة
والخلل يكمن في بطن التاريخ العريض لهذه الأمة .
إن كل ما نشعر به من متواليات التخلف إنما كان له ما يغذيه في عمق
تاريخنا .. فالاستبداد بكل أشكاله له جذوره , وله فقهاؤه المساعدون في شرعنته ,
وله سياقه التاريخي الكامل الذي أسس بنيانه الذي بني التاريخ والوعي والثقافة
والتربية والسلوك الجمعي على مقوماته .
وحالة رفض المعرفة والاستنارة وتعطيل العقل كل ذلك له جذوره المغذية التي
أوصلتنا اليوم إلى تغييب الفلسفة والفنون وتحييد الإنسانية في دواخلنا , حتى
أصبحنا لا نعرف ماذا نريد بالضبط ؟ ولا كيف نعيش ؟ ولا كيف نتفاعل مع العالم من
حولنا ؟
لذلك فإن إعادة قراءة وتقييم التراث هو خطوة أولى لتصحيح المسار , تتبعه
خطوات أخرى لتصحيح ما طرأ على الثقافة بكل شجاعة وإقدام , فالوقت لا يسمح , والأمم
الوثابة من حولنا لا تنتظر .
ولكن يجب القول إن تراثنا ليس تراثاً غجرياً , وحين يكون الحديث عن
مساوئه فلا يعني العقوق لانتمائه , ولا وأد جمالياته , فلا توجد حضارة في الدنيا
إلا وفيها جوانب مشرقة إلى جوار أخرى مظلمة. ومن جماليات حضارتنا العريقة تلك المنتجات المبهرة في كل العلوم بمختلف
أنواعها , إضافة إلى بعض التجارب السياسية الناجحة في فترات مشرقة من التاريخ .
ولكن هذا يعني وجوب أن يكون كل ذلك دافعاً للمراجعة والتمحيص بدافع النقد الذاتي
الشجاع , والذي يؤسس لبناء مستقبلي صحيح .
الخطورة في هذا الموضوع والممانعة المتوقع بروزها أمامه هي تلك الشخصيات
التاريخية التي أحيطت بهالات مقدسة رغم امتلاء سيرتها بأبشع أنواع القبائح , فتحاط
سيرتها بشيء من القداسة وحرمة النقد خدمة
ً لأيديولوجيا معينة , أو تشابه سياسي مرحلي, فأٌقول : إن التواضع للحقيقة
والشجاعة في إلغاء التقديس عمّن لا يستحقه هو أولى خطوات التصحيح , وبالتالي أولى
خطوات الطريق الصحيح نحو النهضة .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق