ظل الخطاب الوعظي جزءاً من ثقافة المجتمع لعقود
خلت , في ظل غياب واضح لتعددية الرأي ومصادر التلقي الأخرى , وظل ذلك الخطاب الذي
يتسم بالشحن والتعبئة متسيدا الساحة الفكرية , حتى بات المشهد في فترة من الفترات
مبكياً لكل متابع لحالة التردي الفكري , والردّة الثقافية الواعية بالواقع وروح
العصر !!
ظلّ الكثيرون مأسورين بخطاب لا يباشر حياتهم اليومية وهمومهم المعاشة , بل لم يكن سوى مخدّر موضعي للعقل كلما أراد الهروب من الهمّ اليومي , تماماً كالمخدّر الذي يذهب بالإنسان بعيداً عن واقعه ليعيش في عالم آخر .. إلا أن هذا المخدّر يختلف عن غيره بأنه يستثير القلق والمخاوف باستخدام وسائل تخويف مقلقة كـ عذاب القبر والشجاع الأقرع وشوي الجلود في نار جهنم , وليس مجرد تخدير تقليدي للهروب من الواقع إلى عوالم فانتازية أكثر راحة للأعصاب !
قد يغضب مني البعض في هذا التوصيف الذي أطلقته في حق الخطاب الوعظي , حسناً تعالوا لنحسبها قليلاً بالحقائق , لنرى هل هو تخديري فعلاً أم أنني مخطئ وأنه إلهي المصدر وشرعي الأداء والأدبيات ؟؟
إننا نعرف أن رسالة الإسلام لم تكن إلا للخروج بالعباد من عبادة العباد لعبادة رب العباد ولرفع الظلم عن الإنسان وهدايته وتحقيق حقوقه والحفاظ على ضرورياته الخمس .. هذا في الأصلين القرآن والسنة .. إلا أنه وبسبب التمذهب الذي عمّ كل قُطر من بلاد الإسلام فإننا سنجد أن كل مذهب لديه تصوراته عن ضروريات الدين التي يعنى بها , وفلسفته التي ينتجها ليلبس الدين بها , منطلقين من أيديولوجياتهم وثقافتهم البيئية الخاصة , والتي تدخل فيها عوامل أخرى من خارج الدين تماماً , ليست أقلّها السياسة ! وعليه فإنه تلك الثوابت الإسلامية الأصلية قد تحولت -ضمنياً دون تصريح- إلى هوامش لحساب ثوابت مذهبية أكثر إيغالاً في الانغلاق وتهميشاً للإنسان وحقوقه والبعد عن السياسة وتبعاتها والنأي عن الواقع المعاش والمعرفة الكونية وفهم أسرار التوازنات العالمية , وضعف الإدراك لما يدور خارج الحدود , وكل ذلك لممارسة عملية تخدير جماعي كوسيلة آمنة للخروج بالمتلقي إلى فضاء آخر يتم فيه تشكيل عقليته ووعيه والتحكم بتحركاته وتطلعاته . ثم إعطائه بعض الأمل في واقع آخر أكثر جمالاً !
فحين يخرج الوعظ من رحم هذه الثقافة المذهبية الضيقة , فإنه سينأى بنفسه عن الحقوق العامة والخاصة , وسينأى أيضاً عن السياسة ونقدها وتصحيحها , وسيقدم مادّته الوعظية تلك فقط في سياق المحافظة على تسييل اللغة الدينية المبرمجة مسبقاً ودعم استمراريتها في الحياة العامة وإثبات وجودها وفحولتها , دون أن ينتظر منها أن تؤدي لنتائج ملموسة على شؤون الإنسان اليومية ! ودون أن يهتم ذلك الخطاب بالخوض في مسائل التنمية والنهضة أو حتى إدراك أهميتها , فقد ظلّ خطاباً يستهدف الفرد الواحد في إطار التضييق على حرياته الخاصة دون أن يتجرأ على تقويم الشؤون العامة الأخرى : الاقتصادية أو السياسية أو التنموية . ودون أن يطرح مجرد الطرح لأسئلة النهضة الكبرى , ودون أن يُظهر أي اهتمام بها أو لها !
بل ربما جاء الخطاب الوعظي في سياق الداعم المباشر للخطاب السياسي , ومبرراً له في أحيان كثيرة , كمثل شرعنة عدم توسيع المشاركة السياسية بمصطلح كفاية أهل الحل والعقد , ودعم فكرة أن الديموقراطية انحلال وكفر وفرصة لتضييع الأخلاق .. والسكوت المتعمد عن حالة الهدر الحقوقي والمالي .. وفي هكذا خطاب ينأى بنفسه عن تقويم الأداء السياسي بمفهوم معاصر سيجد السياسي فيه ضالته المنشودة , فيحظى بالدعم اللامحدود ليستمر في تقديم نموذج ديني مدجّن .. ليمارس النأي بالرأي العام عن القضايا المصيرية والتي يريد السياسي أن يديرها وفق تصوره الخاص بعيداً عن التشويش !!
هكذا خطاب .. بدأنا نرى الكثير من مظاهر التمرد عليه , ليس من أتباع فقط بل من رموز وقادة كانوا في يوم من الأيام سادةً لتلك المنابر .. اليوم نجد حالة من التململ الذاتي في عمق بنية ذلك الخطاب , لأنه بات غير قادر على تسويق نفسه بذات الأدوات القديمة هذا أولاً .. وثانياً لارتفاع منسوب الوعي الاجتماعي العام مما دعا إلى ضرورة المراجعة الشاملة , إلا أنها لا تزال على استحياء في إطار مجاذبات بين شيوخ السلفية وشبابها الذين يتطلعون إلى لغة معاصرة أكثر إحاطة بمدركات الواقع , ولم تصبح بعد ثورة شاملة في كل مفاصل الخطاب ومحدداته .
سيقول قائل .. ومعه بعض الحق .. ماذا عن مذكرة النصيحة وخطاب المطالب اللتين قدّمتا في مطلع التسعينات .. وللإجابة علينا البحث فيما حوته هاتين المذكرتين في كونهما لم تطرح أكثر من رغبتها ورغبة تيارها في السيطرة على شؤون الحياة العامة لتمكينها من إدارة الحياة بذات الأدوات القديمة وليست بأداوات مناسبة .. فالحقيقة أن هذين البيانين لم يخرجا عن كونهما موعظة عادية تقليدية مغلّفة بمطلب سياسي !!
النظرة المستقبلية ..أو تصوري الخاص هو أن هذا الخطاب في طريقه إلى أن يصبح في أرشيف التاريخ , لأن خطابات أكثر مرونة منه وجدت طريقها إلى ذلك الأرشيف لعدم وجود منهجية المراجعة المستمرة والتقويم الذاتي الحر .. وهكذا التاريخ يصنعه الواقع وظروفه الزمنية وليست الإرادة الأيديولوجية .
ظلّ الكثيرون مأسورين بخطاب لا يباشر حياتهم اليومية وهمومهم المعاشة , بل لم يكن سوى مخدّر موضعي للعقل كلما أراد الهروب من الهمّ اليومي , تماماً كالمخدّر الذي يذهب بالإنسان بعيداً عن واقعه ليعيش في عالم آخر .. إلا أن هذا المخدّر يختلف عن غيره بأنه يستثير القلق والمخاوف باستخدام وسائل تخويف مقلقة كـ عذاب القبر والشجاع الأقرع وشوي الجلود في نار جهنم , وليس مجرد تخدير تقليدي للهروب من الواقع إلى عوالم فانتازية أكثر راحة للأعصاب !
قد يغضب مني البعض في هذا التوصيف الذي أطلقته في حق الخطاب الوعظي , حسناً تعالوا لنحسبها قليلاً بالحقائق , لنرى هل هو تخديري فعلاً أم أنني مخطئ وأنه إلهي المصدر وشرعي الأداء والأدبيات ؟؟
إننا نعرف أن رسالة الإسلام لم تكن إلا للخروج بالعباد من عبادة العباد لعبادة رب العباد ولرفع الظلم عن الإنسان وهدايته وتحقيق حقوقه والحفاظ على ضرورياته الخمس .. هذا في الأصلين القرآن والسنة .. إلا أنه وبسبب التمذهب الذي عمّ كل قُطر من بلاد الإسلام فإننا سنجد أن كل مذهب لديه تصوراته عن ضروريات الدين التي يعنى بها , وفلسفته التي ينتجها ليلبس الدين بها , منطلقين من أيديولوجياتهم وثقافتهم البيئية الخاصة , والتي تدخل فيها عوامل أخرى من خارج الدين تماماً , ليست أقلّها السياسة ! وعليه فإنه تلك الثوابت الإسلامية الأصلية قد تحولت -ضمنياً دون تصريح- إلى هوامش لحساب ثوابت مذهبية أكثر إيغالاً في الانغلاق وتهميشاً للإنسان وحقوقه والبعد عن السياسة وتبعاتها والنأي عن الواقع المعاش والمعرفة الكونية وفهم أسرار التوازنات العالمية , وضعف الإدراك لما يدور خارج الحدود , وكل ذلك لممارسة عملية تخدير جماعي كوسيلة آمنة للخروج بالمتلقي إلى فضاء آخر يتم فيه تشكيل عقليته ووعيه والتحكم بتحركاته وتطلعاته . ثم إعطائه بعض الأمل في واقع آخر أكثر جمالاً !
فحين يخرج الوعظ من رحم هذه الثقافة المذهبية الضيقة , فإنه سينأى بنفسه عن الحقوق العامة والخاصة , وسينأى أيضاً عن السياسة ونقدها وتصحيحها , وسيقدم مادّته الوعظية تلك فقط في سياق المحافظة على تسييل اللغة الدينية المبرمجة مسبقاً ودعم استمراريتها في الحياة العامة وإثبات وجودها وفحولتها , دون أن ينتظر منها أن تؤدي لنتائج ملموسة على شؤون الإنسان اليومية ! ودون أن يهتم ذلك الخطاب بالخوض في مسائل التنمية والنهضة أو حتى إدراك أهميتها , فقد ظلّ خطاباً يستهدف الفرد الواحد في إطار التضييق على حرياته الخاصة دون أن يتجرأ على تقويم الشؤون العامة الأخرى : الاقتصادية أو السياسية أو التنموية . ودون أن يطرح مجرد الطرح لأسئلة النهضة الكبرى , ودون أن يُظهر أي اهتمام بها أو لها !
بل ربما جاء الخطاب الوعظي في سياق الداعم المباشر للخطاب السياسي , ومبرراً له في أحيان كثيرة , كمثل شرعنة عدم توسيع المشاركة السياسية بمصطلح كفاية أهل الحل والعقد , ودعم فكرة أن الديموقراطية انحلال وكفر وفرصة لتضييع الأخلاق .. والسكوت المتعمد عن حالة الهدر الحقوقي والمالي .. وفي هكذا خطاب ينأى بنفسه عن تقويم الأداء السياسي بمفهوم معاصر سيجد السياسي فيه ضالته المنشودة , فيحظى بالدعم اللامحدود ليستمر في تقديم نموذج ديني مدجّن .. ليمارس النأي بالرأي العام عن القضايا المصيرية والتي يريد السياسي أن يديرها وفق تصوره الخاص بعيداً عن التشويش !!
هكذا خطاب .. بدأنا نرى الكثير من مظاهر التمرد عليه , ليس من أتباع فقط بل من رموز وقادة كانوا في يوم من الأيام سادةً لتلك المنابر .. اليوم نجد حالة من التململ الذاتي في عمق بنية ذلك الخطاب , لأنه بات غير قادر على تسويق نفسه بذات الأدوات القديمة هذا أولاً .. وثانياً لارتفاع منسوب الوعي الاجتماعي العام مما دعا إلى ضرورة المراجعة الشاملة , إلا أنها لا تزال على استحياء في إطار مجاذبات بين شيوخ السلفية وشبابها الذين يتطلعون إلى لغة معاصرة أكثر إحاطة بمدركات الواقع , ولم تصبح بعد ثورة شاملة في كل مفاصل الخطاب ومحدداته .
سيقول قائل .. ومعه بعض الحق .. ماذا عن مذكرة النصيحة وخطاب المطالب اللتين قدّمتا في مطلع التسعينات .. وللإجابة علينا البحث فيما حوته هاتين المذكرتين في كونهما لم تطرح أكثر من رغبتها ورغبة تيارها في السيطرة على شؤون الحياة العامة لتمكينها من إدارة الحياة بذات الأدوات القديمة وليست بأداوات مناسبة .. فالحقيقة أن هذين البيانين لم يخرجا عن كونهما موعظة عادية تقليدية مغلّفة بمطلب سياسي !!
النظرة المستقبلية ..أو تصوري الخاص هو أن هذا الخطاب في طريقه إلى أن يصبح في أرشيف التاريخ , لأن خطابات أكثر مرونة منه وجدت طريقها إلى ذلك الأرشيف لعدم وجود منهجية المراجعة المستمرة والتقويم الذاتي الحر .. وهكذا التاريخ يصنعه الواقع وظروفه الزمنية وليست الإرادة الأيديولوجية .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق