مجتمعنا المحلي من
أعقد المجتمعات في العالم , فلو أخذنا مثلاً ثنائية ( المدينة / القرية ) عبر
التاريخ لوجدناها لا تنطبق على مخرجات هذه ( الخصوصية ) المحلية في هذه الأيام من
وجوه عدة , من أمثلتها : أن في قُرانا اليوم هناك تمدّن واضح , كما أن في مدننا
اليوم هناك عصبية قبلية ونزوح إلى الهويات الصغرى !!
وكأن الإنسان في
القرية يجنح إلى المدنيّة , وهو نفسه في المدينة يجنح إلى قرويته وانتمائه , وهذا
ينبئ بأن هناك حالة انفصام حادة بين ازدواجية ( الانتماء , والتطلع ) في أعماق
الذهن الجمعي , تسببت حالة النكوص المعرفي والحضاري في إحداث ذلك الانفصام , ولم
يكن هناك برامج تثقيفية جادة في إيواء تلك الثنائية بشكل متصالح في أذهان الناس !
فالإعلام والتنمية
والمشاريع الحكومية استهدفت المدن الكبرى وأهملت الأطراف – نوعاً ما – فحصل الجنوح القروي نحو تمثل قيم المدن , رغبة
في تعويض ما فات , في ذات الوقت الذي حصل فيه في المدن ما يشبه الاحتكار الوظيفي
والاقتصادي في الفرص وعدم التساوي ولجوء الناس إلى مفاهيم الواسطات فحصل الجنوح
إلى الهويات الصغرى كنوع من التكتل في مواجهة الشعور بالتهميش وما يتبع ذلك التكتل
من التقوقع على الذات والانتماء وسط المدن التي تعجّ بالتشكيل العرقي متعدد
الأطياف !!
لستُ ضد نقل القيم
الخاصة إلى المدن , بالعكس , هذا الشيء بالذات فيه إثراء جميل .. ولستُ أيضاً ضد
انتقال القرويين إلى مرحلة التمدن , بالعكس أيضاً هذه ضرورة عصرية .. وإنما هنا
أنا أحاول أن أتلمس مواضع الخلل الاجتماعي الرهيب الذي من شأنه أن يعقّد الوقائع
البدهية للدارسين لحالتنا الاجتماعية فيقعون في حيرة في فهم طبيعتنا المدنية
والقروية على السواء , وكيف أنها يمكن أن تخالف حركة تلك الثنائية عبر التاريخ !!
يحتار الدارسون
للمجتمع المتمدن عندنا في كونه عبارة عن جملة من المجتمعات الصغرى – وإن تجانست –
إلا أن أغلبها لم يهضم بعد قيم المدنية الحديثة , ويحتارون كذلك في كون مجتمعنا
القروي لا تنطبق عليه محددات القروية تاريخياً وإنما هو صورة مصغرة لمجتمع المدينة
ولا يختلف بشيء سوى أنه مع كل هذا يعيش في قرية !!
حسناً .. لست هنا
بصدد تقديم مشروع حل لتلك المعضلة , فهذا من شأن المتخصصين في علم الاجتماع , ولكن
لعل مهمتي هي طرح أسئلة أخرى تحيط بالموضوع .. مثل أسئلة التنمية وتوزيعها المناطقي
, وأسئلة المحاصصة والفرص وإعادة النظر في
معايير الثقة وتقسيمها , وبذلك لعلي أقدم شيئاً بسيطاً في عدم تحميل المسؤولية
كاملة على المجتمع بشقيه المدني والقروي , ولا على تلك ( الخصوصية ) التي لابد
وأنه كان لها صانع قد صنعها , ولا يزال يرى مخرجاتها !!
هذه الفكرة التي
أقدمها أعتقد أنها تفسر جزءاً من مظاهر العودة إلى القبلية اليوم , وأعتقد أنها قد
تجيب على أسئلة موجعة حول أسباب عودة تلك القبلية اليوم ظاهرة للعيان , بشكل أزعج
بعض المتلهفين الذين كانوا ينتظرون تلك اللحظة التقدمية في مظاهرها الاجتماعية
والمدنية والسلوكية!!
فيما كُتب عن
القبليّة ومظاهرها لم أر أحداً كتب عن الدوافع الكامنة وراء رغبة الناس في العودة
إلى تلك المظاهر . حتماً هناك أسباب أكثر حضوراً من مجرد الرغبة في تحقيق تلك الذات
الصغرى أو الهوية الانتمائية , وربما كانت تلك الذات أو الهوية شعاراً يخفي شيئاً
أعظم وأكثر إلحاحاً عند الناس في العقل اللاواعي دفعهم دفعاً إلى اللجوء لتلك
المنطقة الحاضنة !
أنا أعتقد أن منشأ تلك العودة أو ( الردّة ) المدنية في نظر كثيرين هو ذلك الشعور بالخطر المتربص في عمق الوجدان الجمعي لمجتمعنا , ولكل تجمع فئوي أصغر كالقبيلة مثلاً , فالأحداث
من حولنا والأخطار المحدقة , وعدم ثقة كثير من الناس بالمستقبل , أعتقد أن كل ذلك
قد دفعهم دفعاً – ربما دون شعور - إلى التنادي والتشكل والتعارف من جديد بعد سنوات
التنمية والطفرة والتفرق في الأرض , ثم ترتيب البيت القبلي من جديد في هيئة
مناسبات شكلية هدفها الأساس - من وجهة نظري - إعادة التعارف من جديد وبث القيم الخاصة لإعادة صناعة
تلك الوحدة الانتمائية الخاصة , من أجل إعادة ترميم النسيج الانتمائي الحاضن كنوع من
مواجهة فرضيات عدة لا يزال يثيرها القلق الجمعي نحو المستقبل !!
ما سبق مجرد اجتهاد
شخصي في فهم مسببات ذلك الانفصام الذي حصل بين إنسان عصري ربما ولد وعاش في مدينة
وبين مدينته التي فشلت في تطبيع شخصيته , وربما أعادته بمقوماتها القائمة إلى
مقاومة تلك المقومات , في نسق استثنائي غريب لم يتكرر ولا أعتقد أنه سيتكرر إلا في
هذه الحالة الخاصة !!
المهم أنه علينا
التعمق أكثر في فهم خواصنا ومسبباتها وجذورها , وأنه في كثير من الأحيان قد لا
تنطبق علينا المحددات العلمية العريقة في التاريخ والانثروبولوجيا , نظراً لتحولات
هذه اللحظة الاستثنائية , وتعقيداتها , وتداخلاتها المحيّرة !!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق